أطروحة بعنوان: منظومة الأوقاف العامة بالمغرب، بين التأطير القانوني و الفقهي و الحماية القضائية PDF
أولا: تقديم عام
يعتبر الوقف" تبرعا إسلاميا متميزا ذا طابع اجتماعي منفتح، ليس فقط كوعاء مالي يسخر لخدمة ما، بل له أدوار تنموية بالغة الأهمية في تأسيس ودعم و تقوية نسيج المجتمع والملاحظ على هذه التعاريف الاصطلاحية للوقف، أنها تختلف من حيث الصياغة رغم اتفاقها من حيث المضمون ، ويرجع هذا التفاوت في التعريف الاصطلاحي للوقف إلى زيادة قيد أو شرط في تعريف دون آخر، تبعا لاختلاف مذاهب الفقهاء، من حيث لزومه، وعدم لزومه واشتراط القربة فيه، والجهة المالكة للعين بعد وقفها، إضافة إلى كيفية إنشائه، هل هو عقد أم إسقاط، وما يترتب على ذلك من اشتراط القبول أو التسليم لتمامه.
لأن الفقهاء عندما يعرفون الوقف وينسبونه إلى أئمة المذاهب كأبى حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم من الأئمة، فإن المتبادر إلى الذهن من تعاريفهم أنها منقولة عن هؤلاء الأئمة الإسلامى ، الذي هو اليوم فى أشد الحاجة إلى تجديد تقاليد العمل به لكونه يجسد عمقا إنسانيا كبيرا، وتجليا جميلا لإرادة الخير في نفسية المسلم، وذلك وفقا لمنظومة متماسكة من القيم والأخلاقيات الإسلامية الأصيلة، التي تحظ على المشاركة في الشأن العام وتعلي من أهمية المبادرة بعمل الخير، ليتحقق من هذا كله اندماج حميم للنفس الإنسانية بالمجتمع، تظهر آثاره الإيجابية في التحرر من حب التملك، وذلك بسد حاجات الآخرين وإغاثتهم من ضيق الحوج إلى سعة الاكتفاء المادي والمعنوي.
والوقف باعتباره صدقة جارية ممتدة في الزمن، ساهم بشكل كبير في إثراء المجتمع الإسلامي بمؤسسات علمية وثقافية مختلفة الأشكال والصيغ والمناهج، مما كان له الأثر الواضح فى بناء الحضارة الإسلامية وازدهارها، وهو ما يجعلنا ندرك أن العدالة الاجتماعية التى يحققها الإسلام بصفة عامة، والوقف بصفة خاصة، شيء أكبر من سياسة المال، وأسمى من مجرد توزيع ثروة المجتمع بالمساواة، كما ندرك أيضا أن ميزة الوقف التطوعية تجعل منه أداة لتأكيد الهوية الإسلامية، التي تجعل الإنسان يعبر عن إيمانه بإيجابية وفعالية من أجل تحقيق التضامن الاجتماعي وتعزيز الروابط بين الأفراد.
والمغرب كغيره من البلدان الإسلامية عرف الوقف منذ وصول الفاتحين المسلمين، وما يدل على العناية به عبر التاريخ المغربي ما نعرفه من توالي بناء المنشآت الوقفية، التي وصلت ذروتها إبان حكم الموحدين والمرنيين، اعتبارا لوصول الإسلام في المغرب العربي في ظل هذه الحقبة إلى أوج بهائه حيث خصصت عائدات الأموال الموقوفة لبناء المساجد والمدارس، والمستشفيات وغيرها.
فإذا حاولنا تحليل تاريخ الأحباس الإسلامية بالمغرب لوجدنا أن هذه الأخيرة لم تراع فقط حقوق الإنسان بل حتى حقوق الحيوانات، ففي بعض المناطق كانوا يحبسون على العلجوم إذا انكسرت ساقه، كما كان التحبيس على المارستانات، التي يستعملون فيها كل يوم جمعة الموسيقى لعلاج الأمراض العقلية، كما نجد أوقاف لتعويض كل آنية كسرها طفل حتى لا ينال عقاب والديه، وكذلك أحباس إغاثة الملهوف وإدخال الفرجة على المكروبين أو الفتاة التى سوف تزف حتى تظهر لزوجها بمظهر لائق ليلة فرحها، بحيث إن الأحباس تشيد المساجد وتؤدي رواتب الأئمة والمؤذنين، وتفرج الكربة عن الناس، فهي مقياس الحضارة والرقة، رقة شعور الأمة والشعب الذي يحبس".
لكن، نظرا للتقلبات الكثيرة التي عرفتها الدول الإسلامية، وأبرزها التأثيرات السلبية التى تركها المستعمر في تلك البلاد، والتي تعد سببا في تراجعها عن أوجها وازدهارها، جعلت الوقف فيها هو الآخر يعرف ضمورا ملحوظا، خاصة في الأزمنة الحديثة، مما فرض على
الحكومات والمنظمات الإسلامية العمل بجد وإخلاص من أجل إعادة النظر في البنية القانونية لنظام الأوقاف، لحمايته والحفاظ على الغاية المتوخاة منه، وتمكينه من الاضطلاع بدوره في تحقيق الأهداف الشرعية المرجوة منه.
ففى المغرب مثلا، كانت إدارة الأوقاف قبل الحماية الفرنسية تقوم بها نظارة الأوقاف بالنيابة عن المسلمين وباسم السلطان، إلا أنه في ظل الحماية، وبالرغم من نجاح الحكومة الشريفة آنذاك في جعل مؤسسة الأحباس خارج نطاق معاهدة الحماية لارتباطها بالشأن الديني للمغاربة، حيث نصت على استثناء المؤسسات الدينية والأحباس من تدخل سلطات الحماية ، وأبقت التصرف المطلق فيها لسلطان المغرب" وذلك بمقتضى عدة ظهائر شريفة صاحبتها عدة قرارات ومنشورات وزارية لتفسيرها وتوضيح العمل بها بالنسبة للنظار، الذين يخضعون إلى البنيقة الحبسية بدار المخزن ، إلا أن الحماية الفرنسية في واقع الحال قامت بفصل دواوين الأوقاف الإسلامية عن الحكومات المسلمة ووصلتها مباشرة بالمفوضيات العليا، وجعلت لها مستشارين غير مسلمين يتصرفون في شؤونها الإدارية والمالية بسلطة واسعة ونفوذ مطلق فأرهقوا خزاناتها بالرواتب المستحدثة العظيمة" .مما ساهم في ركودها وتراجع مواردها
فتعالت أصوات المغاربة للتنديد بما آلت إليه أوضاع الأحباس الإسلامية بالعديد من المدن المغربية.
وبعد حصول المغرب على استقلاله، بقيت الأوقاف خاضعة لنفس الأحكام والضوابط التى كان معمولا بها من قبل، إلا أنه رغم بقاء الأوقاف تحت الإشراف المباشر للملك باعتباره أميرا للمؤمنين، وحمايته لها من الذوبان في أملاك الدولة، وصيانة أموالها من استغلالها فى النفقات العمومية للحكومات المتعاقبة، إلا أنها مع ذلك عانت من الضياع والاندثار، مما جعلها منعزلة غير قادرة على منافسة القطاعات الأخرى فى تحديث إدارتها، وتجديد تشريعاتها وضوابطها، ومواكبة الحركة الدائمة للمجتمع نحو التقدم والنمو والأخذ بأسباب التحديث، كما ترتب على ذلك بروز إشكالات كثيرة حفت بهذا القطاع المهم من كل جانب، فابتداء من مشكلة البناء القانوني المنظم للأوقاف، ومرورا بطرق الانتفاع بالمال الموقوف، و وصولا إلى وظيفة الناظر، تواجهنا مشكلات كبيرة ومتنوعة تثقل كاهل هذه المؤسسة وتحول بينها وبين مهمتها التنموية، وتجعلها تعاني من سلبيات ليست ناجمة عنها فى حد ذاتها، بل عن سوء تدبيرها وعدم حمايتها، ومواكبتها بالرعاية التنظيمية والإدارية من قبل المعنيين، الأمر الذي أدى إلى شيوع ظاهرة الترامي والاعتداء على الأوقاف حتى صار مال الوقف مضربا للأمثال في الإهمال والتسيب.
وللحد من هذا الوضع الذي يرجع بالأساس إلى كون الوقف بقي أسيرا لمنظومة قانونية متقادمة، ومنعزلا عن أي تحديث أو تنمية مما ساهم ضمن عوامل متعددة أخرى في إضعاف الميل الاجتماعي نحو إنشاء أوقاف جديدة، لعد إمكانية شمولها بالحماية القانونية الناجعة.
من هنا إذا بدأ التفكير جديا في إعادة النظر في المنظومة القانونية لنظام الوقف بالمغرب، لجعلها إطارا قانونيا حديثا يخرج الوقف من عزلته، ويستجيب في الوقت ذاته للتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها البلاد، فنتج عن هذا صدور مدونة للأوقاف، جمعت بين دفتيها جميع الأحكام المتناثرة للوقف، وحسمت التضارب في أموره المختلفة، وأعادت تنظيم أحكامه القانونية شكلا ومضمونا.
ثانيا: موضوع الدراسة
إن الموضوع الذي عنيت ببحثه ودراسته من خلال هذه الأطروحة، يتناول بالأساس منظومة الأوقاف العامة بالمغرب بين التأطير القانوني والفقهي والحماية القضائية.
ففى هذا السياق، واعتبارا لكون النص القانوني الفاعل فى مجال الوقف تضارعه في التأثير قواعد فقهية، اقتضت تقنية التشريع والخلفية التاريخية لمادة الوقف أن تربط النص القانوني بالمصدر الفقهى الذي منه ذلك النص، جعل مجال هذه الدراسة ينصب حول منظومة الأوقاف العامة، والمحكومة كما قلنا سابقا- بثنائية من حيث القواعد والأحكام التى متشعب، ومجال قانوني مركب.
تنظم مسائله، حيث يتقاسم مادة الوقف مجال فقهي.
إلا أن المشرع المغربي رغم هذه الصعوبة، التي تجعل بنية الوقف تتميز بتداخل عناصرها وتعدد أبعادها، استطاع خلق تفاعل بين أطراف هذه الثنائية و منح الوقف منظومة قانونية تتميز صياغتها بالدقة العلمية والابتكار والتجديد، الذي يجعلها قادرة على أن تكون محينة باستمرار، مع الحفاظ على القواعد الشرعية للوقف، وأحكامه الفقهية التى تنظم مجاله، وذلك دون الإغفال عن ممارسة حق الاجتهاد في المستجدات والنوازل، ضمن ما توفره أصول الفقه ومقاصد الشريعة من آليات وقواعد.
وهو ما نتج عنه صدور مدونة للأوقاف جمعت شتات النصوص التشريعية المطبقة على الوقف، وقننت أحكامه المتناثرة فى مؤلفات الفقه الإسلامى، حيث وصلت بذلك إلى درجة المزج المتكامل بين ذلك كله، من أجل تمتيع قطاع الأوقاف بالمغرب بإطار قانوني حديث،
يمكنه من مواكبة التحولات الشاملة التي تعرفها البلاد، ويراعي خصوصيته المستمدة من أحكام الفقه الإسلامي، وهو ما يستدعي الوقوف عند هذا التشريع الجديد لتحليل إلى حيز التنفيذ بتاريخ:24 أكتوبر 2013، وذلك بعدما صدرت بالجريدة الرسمية جميع النصوص المتخذة لتطبيقها، وسيشار إلى مدونة الأوقاف بين ثنايا هذا البحث فيما بعد باسم المدونة.
مضامينه، ومقارنتها، ومناقشتها، وإبداء الرأي بشأنها، وذلك من خلال أدوات البحث الرئيسية من تشريع وفقه وقضاء.
ثالثا: دواعي البحث و أهميته
لم تكن فكرة البحث في موضوع هذه الدراسة من باب الصدفة، وإنما هي طموح لهدف علمي تناولته من باب التجديد والتطوير، للمساهمة فى إثراء المكتبة العلمية، خصوصا بعد صدور مدونة للأوقاف تجمع بين دفتيها جميع الأحكام المتعلقة بالوقف العام انطلاقا من تعريفه، و بيان عناصر إنشائه، وشروط صحته ونفاده، وصفته وآثاره، مرورا بمقتضيات الحماية المقررة له، والتي تبين الإمكانيات المتاحة لتطويره، من أجل تحقيق الأهداف المرجوة منه، عن طريق تمتيعه بضمانة تشريعية غاية في الأهمية ستحافظ عليه بلا شك، وتيسر استقراره، وتساعد على تنميته، والمتمثلة فى الاعتراف له بالشخصية الاعتبارية منذ إنشائه، وصولا إلى تفعيل بعض المقتضيات الحمائية الأخرى التي كانت مقررة له، والمتعلقة أساسا بالتحفيظ العقاري، وتيسير وسائل إثباته، وذلك عن طريق التوظيف الجيد للاجتهاد القضائي، مع العمل كذلك على إضفاء حماية خاصة على التصرفات الجارية سواء على أصله، أو المتعلقة بطرق
الانتفاع به.
من هذا كله انبثق الاهتمام بالبحث في هذا الموضوع، الذي بقدر ما تطبعه الصبغة التقنية أو العملية من حيث اهتمامه بعمل قضائي يتجسد فى أحكام وقرارات قضائية، بقدر ما تتجاذبه مواقف الفقه والقانون، باعتبارهما محددين للثنائية المسيطرة على مجال الوقف. ومن هنا كذلك، تتحدد أهمية البحث في هذا الموضوع ، ذلك أن إقرار المشرع لأحكام خاصة و مهمة لفائدة الأوقاف العامة، كما هو الشأن مثلا بخصوص: الاعتراف له بالشخصية الاعتبارية، وإقرار رقابة على ماليته عن طريق إحداث مجلس أعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة، وعدم قابلية الأحكام الصادرة لفائدة الأوقاف العامة في منازعات الكراء للاستئناف، إضافة الى وقف الطعن بالنقض للتنفيذ في دعاوى الأوقاف العامة، وإمكانية الطعن بإعادة النظر فيها، واستثناء الأملاك الموقوفة وقفا عاما من قاعدة التطهير الناتجة عن تحفيظ العقار وتأسيس الرسم العقاري، وفتح المجال لجميع الوسائل الشرعية والقانونية لإثبات الوقف، وتوقف نزع ملكية العقارات الموقوفة وقفا عاما على موافقة السلطة الحكومية المكلفة بالأوقاف، وتمتيعه بوضع امتيازي يوجب عدم جواز حجزه أو التصرف فيه أو كسبه بالحيازة، إضافة إلى تقنين معاوضته، وتدقيق مساطر كرائه، ومحاولة تخليصه تدريجيا من الحقوق العرفية المنشأة عليه، كل ذلك يوضح بجلاء أهمية موضوع هذه الدراسة.
رابعا: إشكالية البحث
إن موضوع هذا البحث يطرح إشكالية رئيسية وعدة إشكاليات فرعية :
فالإشكالية الرئيسية التي تحاول هذه الدراسة مقاربتها هي إلى أي حد استطاع المشرع المغربي، توفير الحماية اللازمة للأوقاف العامة من خلال منظومة قانونية تجمع بين التشريع والتدبير؟
من هذه الاشكالية الرئيسية تطرح أمامنا كذلك عدة إشكاليات فرعية تتجسد فى مجموعة من الأسئلة التي حاولت قدر المستطاع الإجابة عنها من خلال هذه الدراسة، والتي تنبع أساسا من ثنائية القواعد والأحكام التى تنظم مسائل الوقف، والتي تجعلنا نتساءل كيف استطاع المشرع أن يجعل بنية المدونة تضم منظومتين قانونيتين تتمثل الأولى في منظومة قانونية عملت على تأصيل جميع الأحكام العامة المتعلقة بالوقف، وحددت بشكل دقيق قواعد التنظيم ومبادئ رقابة الأموال الموقوفة وقفا عاما، ومنظومة تدبيرية وضعت للقائمين على شؤون الأوقاف خطة منهجية لحسن تدبير هذه الأموال وتنميتها.
خامسا: منهجية البحث وخطة الدراسة
إن تحليل هذا البحث يتناول ثلاثة محاور أساسية: المحور الأول ويخص أحكام إنشاء الوقف العام، والمتمثلة في مجموعة من الشروط الشكلية والموضوعية التي يتطلبها ذلك، وآثار قيامه بالنسبة لكل من الواقف والموقوف عليه ، والمحور الثاني يتناول خصوصيات نظم
حماية الأوقاف العامة، من خلال رصد مضامينها في ضوء مدونة الأوقاف، أما المحور الثالث فيتعلق بتفعيل آليات هذه الحماية من خلال قواعد التحفيظ العقاري ووسائل الإثبات، إضافة إلى التصرفات الجارية على أصله أو على طرق الانتفاع بريعه.
ومن أجل أن يكون هذا التحليل متوازنا في بنائه النظري ، فإن المنهجية التى اعتمدتها تقوم على تبني مقاربة تأصيلية تهدف إلى الإحاطة بمختلف جوانب الموضوع وإشكالاته المتعددة، منطلقة من قواعد الفقه المالكي ذات الصلة، و مقارنتها بما أخذ به المشرع
المغربي في مدونة الأوقاف .
وتستدعي هذه الدراسة، إضافة إلى مقاربة تأصيلية الاعتماد منهج تحليلي نقدي لمختلف آراء الفقه والنصوص القانونية، والاجتهادات القضائية المتعلقة بالموضوع، التي حاولت تطعيم البحث بها من أجل ربط بعض الوقائع المتعلقة بالأوقاف العامة بالنصوص القانونية المتعلقة بها، ومشيرة في الوقت ذاته إلى ما تتسم به بعض هذه النصوص من دقة ووضوح أحيانا، ومن غموض أو خلل أحيانا أخرى.
وبعد ذلك كله توفرت لدينا نظرة بكل الموضوعات المتعلقة بالمنظومة الخاصة بقطاع الأوقاف العامة بالمغرب، وكذا الصعوبات المطروحة في ظل ذلك، للوصول إلى خلاصة لموضوع بحثنا مع إجابة واضحة عن الإشكالية الرئيسية التي طرحناها أول الأمر.
وبهذا اتجه القصد إلى تقسيم البحث على الشكل التالي:
باب تمهيدي: أحكام إنشاء الوقف العام وآثاره
الباب الأول: خصوصيات نظم حماية الأوقاف العامة
الباب الثاني: تفعيل آليات حماية الأوقاف العامة
---------------------------
لائحة المراجع :
القرآن الكريم
كتب التفسير
المراجع العامة: