عرض بعنوان: دراسة في الجزاء الجنائي في القانون الجنائي المغربي PDF
مقدمة:
تعتبر الجريمة هاجسا يؤرق مختلف المجتمعات لمساسها بالمصالح العامة، والاستقرار والأمن الاجتماعي، لذلك حاولت مختلف التشريعات تغيير وتطوير سياساتها الجنائية بغية التصدي للظاهرة الإجرامية من خلال تحديد الجزاء المقرر لكل جريمة ليعمل القضاء على تقديره بالنسبية لكل بمجرم مراعيا ظروفه وشخصيته وأحواله المختلفة، حيث يعتبر الجزاء الجنائي ذلك الأثر الذي يترتب قانونا على سلوك يعد جريمة في القانون الجنائي، فالقاعدة الجنائية تتضمن عنصرين وهما التكليف وهو الخطاب الموجه إلى كافة الناس يأمرهم بضرورة الابتعاد عن العمل الإجرامي، والعنصر الثاني هو الجزاء الذي يتضمن إنزال العقاب بكل من يتجرأ على مخالفة هذه الأوامر.
ولابد من الإشارة إلى أن الجزاء الجنائي مر مرحلتين الأولى هي مرحلة العدالة الخاصة وهي قبل نشأة الدولة حيث ارتبط الجزاء بالأشخاص المتضررين من الجريمة فقد كانت الأعراف والتقاليد وقتها تعطي للضحية أو أهله أو عشيرته الحق في معاقبة الجان، ثم تم الانتقال لمرحلة العدالة العامة التي ظهرت بظهور الدولة وممارستها لسلطة التجريم والعقاب استعمالا لحق الجماعة في العقاب، فأصبحت السلطة التشريعية مختصة بتحديد الجرائم والجزاءات المناسبة لها، وأصبح القضاء مختص بإقرار العقاب المناسب للنوازل التي تعرض عليه"،
وبالتالي فإن المشرع المغربي على غرار باقي التشريعات تولى حماية حقوق ومصالح المجتمع والأفراد، عن طريق تجريم جميع الأفعال إيجابية كانت أو امتناعا - التي تؤدي إلى المساس بهذه الحقوق والمصالح، فحدد لها الجزاء الملائم، الذي يعتبر بمثابة رد فعل المجتمع في مواجهة الجريمة والمجرم.
وقد خضع تنفيذ الجزاءات الجنائية لتطور تاريخي مواز لتطور الرؤية إلى الإنسان ككائن بشري يشكل عنصرا أساسيا في تركيبة المجتمع، فبقدر ما اتجه الفكر إلى البحث عن سبل محاربة الجريمة بقدر ما دفع ذلك إلى العناية بالمجرم ومحاولة فهم دوافعه إلى الانحراف وهي كثيرة ومتنوعة وتترجم درجة الخطورة الإجرامية.
فكما سبق وأشرنا فإن القاعدة الجنائية مكونة من شقين شق التكليف المحدد لأركان الجريمة وعناصرها، وشق الجزاء الذي يحدد نوع ومقدار هذا الجزاء الأمر الذي يستوجب علينا التطرق إلى العقوبة التي ظلت لحقبة طويلة من الزمن الصورة الأساسية إن لم تكن الوحيدة للجزاء الجنائي.
وبالرغم من الدور الذي لعبته المدارس الفقهية في تطوير مفهوم العقوبة وما راكم ذلك من تطور في الفكر العقابي إلا أنه ثبت عجز العقوبة عن القيام بالدور المنوط بها والذي يتجلى في الحد من ظاهرة الإجرام والقضاء عليها داخل المجتمع.
فالفقه التقليدي لم يكن يهتم بالجانب الشخصي للجاني ولا بالعوامل التي تدفع به إلى ارتكاب النشاط الإجرامي، لذلك نادى الفكر الجنائي الحديث إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار شخصية الجاني والظروف المؤدية إلى ارتكاب الجريمة، ولقد توج هذا الفكر الحديث بظهور مبدأ التفريد الذي جعل العقوبة تتناسب مع مبادئ حقوق الإنسان ومبدا الشرعية الذي يعتبر من الضمانات الأساسية لحماية حقوق الأفراد، من تعسف السلطة التشريعية والقضائية، وقد كان لهذين المبدأين دورا كبيرا في التلطيف من قسوة العقوبة.
إن التطور النظري لمفهوم العقوبة يعكس مدى تقلب الفكر الجنائي في الاقتناع بقدرها وفعاليتها على مواجهة آفة الإجرام، ذلك أن هذه الظاهرة لم تعرف تراجعا يذكر بالموازاة مع التوجه نحو التلطيف من حدها، فوتيرة الانحراف تعرف تصاعدا يتنامى في المجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حد سواء مما قد يصعب معه المفاضلة بين أنظمة تعتمد أساسا على الصرامة في العقوبة وأنظمة أخرى تذهب نحو البحث عن بدائل للعقوبة السالة للحرية والمهيمنة على كل التشريعات الجنائية، فالجريمة نتاج المجتمع تتطور بتطوره وتنمو بنمائه، ثم إنها تختلف باختلاف قيمه وحضارته، وهذا ما يفسر التقلبات التي تخضع لها عملية التجريم والعقاب باختلاف العصور والدول والظروف، لكن الخاصية الثابتة والمشتركة عبر مختلف الأزمنة بين الشعوب والدول هي ضرورة الجزاء ولو اختلفت حدته، وهو ما يعبر عن رفض هذه الظاهرة "الأبدية" والمرتبطة في جزئها الأكبر بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولابد من الإشارة إلى أن العقوبة ظلت لسنوات طويلة تمثل السلاح الوحيد في يد المجتمع ضد الجريمة، غير أنها أخفقت في العديد من الدول عن تحقيق الهدف المنشود منها والمتمثل في مكافحة الظواهر الإجرامية المختلفة، مما إستوجب التفكير في بديل يحل محل العقوبة أو يشاركها في بعض الأحيان ويكون له من الفاعلية ما تحقق أغراض الجزاء الجنائي المتنوعة فظهرت فكرة التدابير الوقائية كصورة جديدة من صور الجزاء الجنائي في منتصف القرن 19.
غير أن هذه التدابير الوقائية عرفت كإجراءات متفرقة لا تجمعها نظرية واحدة قبل ظهور المدرسة الوضعية الإيطالية، وقد اتخذت صورا مختلفة كتدابير إدارية يصدرها قرار إداري مثل حالة إيداع المجرم المجنون في محل معد لذلك، ثم صورة عقوبات تبعية وإضافية كالمصادرة والحرمان من بعض الحقوق، على غرار ما هو عليه الحال في قانون العقوبات الفرنسي الذي صدر سنة 1838 وكان ينص على تلك الأنواع من الجزاءات.
ومع نهاية القرن 19 أدخلت التشريعات الجنائية التدابير الوقائية في نصوص قانونية وخلصت إلى الجمع بين نظام العقوبة والتدابير الوقائية منها المشرع الفرنسي في قوانين كثيرة كقانون سنة 1953 المتعلق بالاتجار واستعمال المواد المخدرة وأيضا المشرع المغربي بدوره حيث خصه بفصول عدة بدءا من الفصل 61 إلى 104 من القانون الجنائي لسنة 1962.
وإذا كان المشر ع المغربي لسنة 1962 قد اقتس من القرانين الجنائية المعاصرة التي تأثرت بفلسفة المدرسة الوضعية نظام التدابير الوقائية، فيمكن القول بأنه أخذها باعتبارها تدابير زائدة عن العقوبة حيث نجد الفصول التي تقرر أو تخول إمكانية الحكم بالتدابير لا تقرره لوحده وإنما يكون ذلك غالبا إلى جانب العقوبة الأصلية ولا نجد في النصوص التي يسحم فيها بتوقيع التدبير الوقائي لوحده بدل العقوبة التقليدية إلا القلة المحدودة جدا.
الأمر الذي يدعوا لطرح الإشكالية التالية: إلى أي أحد تمكنت السياسة الجنائية التي نجها المشرع المغربي من خلال العقوبات والتدابير الوقائية إلى القضاء أو الحد من ظاهرة الإجرام؟
هذه الإشكالية الجوهرية تتفرع عنها عدة تساؤلات فرعية من قبيل: ما المقصود بالعقوبة كأبرز صورة للجزاء الجنائي؟
وكيف ظهرت وتطورت؟ وما هي أغراضها؟ وأين تتجلى أنواعها في القانون الجنائي المغربي؟ وما المقصود بالتدابير الوقائية؟
وما هي أغراضها؟ وما علاقتها بالعقوبة؟ وهل يمكن الجمع بينها وبين العقوبة؟ وما هي أنواع التدابير في القانون الجنائي
المغربي؟
للإجابة عن كل هذه الإشكالات سنقسم هذا العرض وفق تصميم ثنائي إلى مبحثين:
المبحث الأول: المبادئ الأساسية للعقوبة وأنواعها في القانون الجنائي المغربي
المبحث الثاني: المبادي الأساسية للتدابير الوقائية وأنواعها في القانون الجنائي المغربي.
---------------
لائحة المصادر والمراجع:
القوانين:
ظهير شريف رقم 1.59.413 صادر بتاريخ 28 جمادى الثانية 1382 (26 نونبر 1962) بالمصادقة على مجموعة القانون الجنائي، منشور بالجريدة الرسمية عدد 2640 مكرر، بتاريخ 12 عرم 1383 (5 يونيو 1963)، ص: 1253.
مردة مشروع القانون الجنائي، منشور بالمرقع الالكتروني لوزارة العدل، الإطلا ع عليه يوم الأربعاء 6 دجنبر 2017، على الساعة 21:17.
المراجع الخاصة:
عد السلام بنحدو، مبادئ علم الإجرام دراسة الشخصية، الإجرامية، الطبعة الثانية، 1999.
محمد العروصي، المختصر في شرح القانون الجنائي المغربي الجزء الأول القانون الجنائي العام، مطبعة مرجان مكناس، الطبعة الثانية، 2016.
محمد نجيب حسني، دروس في علم الاجرام وعلم العقاب، دار النهضة العربية القاهرة، دون طبعة 1988.
سليمان عبد المنعم، مبادئ علم الجزاء الجنائي، مطبعة جامعة القاهرة، دون طبعة 2002.
سامي عبد الكرم مجمود، الجزاء الجنائي، منشورات الحلي الحقوقية بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 2010.
نور الدين العمران، شرح القسم العام من القانون الجنائى المغربي، مطبعة وراقة سجلماسة الزيتون مكناس، دون طبعة 2015.
علوي جعفر، المعين في شرح القانون الجنائي العام فقها وقضاء، دار القلم الرباط، الطبعة الأولى، 2010.
عبد الاحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام، الطبعة الخامسة، 51434—/2013
عبد الواحد العلسي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام، الطبعة الثالثة، 2009.
حاتم حسن موسى بكار، سلطة القاضي الجنائي في تقدير العقوبة والتدابير الاحترازية، شركة الجلال للطباعة، 2002
علي محمد جعفر، العقوبات والتدابير وأسالي تنفيذها، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع لبنان- بيروت، الطبعة الأولى 1408—/1988
أحمد الخمليشي، شرح القانون الجنائي العام، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرباط، الطبعة الأولى 1985.
لطيفة الداودي، الوجيز في القانون الجنائي العام، المطبعة الوراقة الوطنية، الطبعة الثانية، دون ذكر السنة،
الأطروحات:
أمينة عتيوي، شرعية تنفيذ الجزاء الجنائي، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية مراكش، السنة الجامعية 2004 2005