مقال بعنوان: المسؤولية الجنائية للموثق على ضوء القانون الجنائي المغربي والقانون رقم 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق
وبالنظر للحركية والتطور التي يعرفها المغرب في كل الميادين، فإن مهنة التوثيق لا تشذ عن هذه القاعدة، فقد أظهرت التجربة العلمية أهمية هذا المرفق كمساهم في التنمية في جميع المجالات، وايضا كمنظم للعلاقات بين أفراد المجتمع، والتجربة ذاتها أظهرت دوره كمهنة مساعدة للدولة، تستطيع بواسطتها تحصيل مختلف الحقوق الجبائية المترتبة لفائدتها.
ويبقى توثيق المعاملات من طرف الموثق من أبرز الوسائل المهمة في الحفاظ على المعاملات نظرا للطابع الذي يميز هذه المهنة من خلال المكانة التي تعطى للعقود المحررة من طرف ممارسيها، والتي تكتسي الطابع الرسمي استنادا للفصل 418 من ظهير الالتزامات والعقود المغربي.
إن توثيق التصرفات يحظى بالمكانة السامية وهذا ما يجعل القانون الذي ينظم مهنة التوثيق يحظى بالأولوية ضمن سائر القوانين الأخرى، وكذا إحاطة الممارسين لمهنة التوثيق بجملة من البنود القانونية باعتبارهم مهنيين يمارسون مهنة تتميز بعدة صعوبات من خلال تبنيهم الحيطة والحذر من التصرفات التي يشرفون على توثيقها و التمعن في كيفية تحريرها وكذا التريث من حيث توثيقها ومعرفة أصحابها، ذلك فإن التقصير أو الرعونة من حيث عدم إعطائها الوقت اللازم قد يؤدي إلى ضياع حقوق الأفراد، وبالتالي إثارة مسؤولية هؤلاء المحررين لهذه التصرفات.
وتتمثل المسؤولية المترتبة عن الإخلال بواجبات المهنة إما مسؤولية مدنية والتي قد تكون مسؤولية تقصيرية أو عقدية من خلال الاخلال بالعقد الذي يجمع بين المتعاقد والموثق للعقد والذي يكون موضعه هو توثيق التصرفات، كما قد تترتب مسؤولية تأديبية للموثق من خلال العقوبات التأديبية التي توقع على الموثق من الهيئة المشرفة على تنظيم مهنة التوثيق والمتمثلة في المغرب في الهيئة الوطنية للموثقين بالمغرب.
غير أنه في بعض الأحيان قد يتجاوز الأمر في المسؤوليات السابقة ليصل إلى ارتكاب أفعال لها طابع جنائي من خلال القيام بأفعال قد تحرك العدالة الجنائية والتي قد تؤدي بالزج بالموثق وراء القضبان.
و ما يهمنا في هذا الصدد، هو المسؤولية الجنائية المتعلقة بالموثق والتي تتحقق عندما يقترف هذا الأخير جريمة من الجرائم المنصوص عليها وعلى عقوبتها في القانون الجنائي المغربي أو القانون المنظم للمهنة، والتي تخلف ضررا يمس بالأطراف والمجتمع بأكمله.
وفي إطار الحديث عن المسؤولية الجنائية في مجال التوثيق المغربي وبالرجوع إلى ظهير 4 ماي 1925 فانه لم ينص على أي عقوبات جنائية، بل كان كل ما نص عليه هو عقوبات تأديبية أو مدنية انفرد بها الفصل 29 منه، ثم جاءت الفصول الموالية لتأسيس طرق تطبيقها، وهكذا كانت الأفعال التي تهم الجانب الجنائي موكولة إلى قواعد القانون الجنائي، وما يحدده لها -الأفعال- من عقوبات كالتزوير والنصب وخيانة الأمانة...، ولازالت هذه الإحالة في القانون رقم 32.09 المتعلق بمهنة التوثيق، إلا أنه قد تم التنصيص صراحة على عقوبات بعض الأفعال غير المنصوص عليها في القانون الجنائي مثل سمسرة الزبناء والإشهار ... و ذلك في القسم الخامس المعنون بالمقتضيات الزجرية، وهذا ما يبرز وعي المشرع المغربي بخطورة هذه الأفعال لم لها من تأثير على الثقة وعلى حصانة المهنة.
ومن خلال ما سبق فإنني أتساءل حول مدى توفق المشرع المغربي في تحقيق الأمن التعاقدي والتوثيقي من خلال المسؤولية الجنائية للموثق؟
المبحــث الأول: أســاس المســؤوليــة الجنــائيــة للمــوثــق
ومن أجل مساءلة الموثق جنائيا يجب أن يكون قد ارتكب فعلا أو امتناعا مخالفا للقانون ويستوجب المساءلة، ويتمثل هذا الفعل أو الامتناع المجرم في خطأ سواء أكان مقصودا أو غير مقصود ،وسواء أكان مخالفا لقانون التوثيق أو غيره من القوانين الزجرية، ويلزم أن تتحقق أركان الجريمة وشروطها مما قد يحقق ضررا.
ويستوي أن يصيب هذا الضرر شخصا طبيعيا أو معنويا، وإذا كانت المسؤولية الجنائية عامة، ومسؤولية الموثق خاصة تقوم على هذه الأسس الثلاث، فيجب أن تتوفر شروط معينة تجعل الموثق أهلا للمساءلة، وتتمثل في أن يكون مميزا قادرا على الفعل أو الامتناع الجرمي الذي سيقترفه من جهة، وأن يتوفر على حرية اختيار كاملة عند تنفيذ الفعل، إلا أنه قد يطال عارض أهليته أو عيب إرادته تؤدي الى انتقاص أو انتفاء مسؤوليته.
و على هذا الأساس سأحاول تناول هذا المبحث من خلال الحديث عن أركان المسؤولية الجنائية للموثق (المطلب الأول)، في حين سأتطرق للحديث عن شروط المسؤولية الجنائية للموثق وموانعها (المطلب الثاني).
المطلــب الأول: أركــان المســؤوليــة الجنــائيــة للمــوثــق
الفقــرة الأولــى: الركــن القــانونــي
إضافة إلى انتفاء سبب من أسباب التبرير والإباحة[4]، لأن انتفاء أسباب التبرير أو الإباحة شرط لابد منه لكي يظل سلوك الموثق المحظور محتفظا بالصفة الإجرامية أو غير المشروعة التي أضفاها عليه نص التجريم[5].
ويجد الركن القانوني للمسؤولية الجنائية للموثق أساسه في مجموعة من الفصول من القانون الجنائي، وبالتالي يخضع للعقوبات المنصوص عليها في هذا القانون، كما أن هذا الركن له موقعه في ظل القانون 09-32 وذلك في القسم الخامس الذي يتضمن مقتضيات زجرية لردع كل موثق سولت له نفسه الخروج عن مقتضيات المهنة.
ومن أجل اعتبار فعل الموثق فعلا معاقبا عليه من وجهة نظر القانون الجنائي يجب أن يكون منصوصا عليه في القانون مسبقا، أي يجب أن يكون هناك نص تشريعي أو قانوني سابق يجرم هذا الفعل ويحظره تحت طائلة توقيع العقاب[6]، ويعد هذان الأمران من أهم الضمانات للأمن والحرية الفردية، فالشرعية بنص القانون تشكل صمام الأمان ضد تعسف السلطة وتحكمها، حيث إن مبدأ شرعية الجريمة يوجب على الدولة أو السلطة الالتزام بأمرين هما:
Ü أنه لا يجوز متابعة أي موثق على فعل غير منصوص عليه في القانون، وذلك طبقا لمبدأ "لا جريمة ولا عقوبة الا بنص"[7].
Ü هو الذي يتضمن منح الصلاحية للسلطة التشريعية لتجريم الأفعال وتحديد العقوبات المناسبة لها بدقة.
ولما كان مبدأ التحديد القانوني لفعل أو سلوك الموثق المجرم من الالتزامات التي يتعين على المشرع معرفتها بدقة، فإنه يتعين على النيابة العامة والقضاء أن يتحققا ويتثبتا من وجود الركن الشرعي للجريمة التوثيقية، أي أن فعل الموثق مجرم قانونا، وأن تحدد النص القانوني الواجب التطبيق قبل تقديم الدعوى العمومية إلى المحكمة المختصة.
وقد عمل المشرع المغربي على تعميم نصوص القانون الجنائي على كل من الأشخاص الخاضعين للقانون العام أو الذين يساهمون بشكل مباشر أو غير مباشر في تحقيق المصلحة العامة بما فيها تحقيق الأمن التعاقدي والتوثيقي بشكل يضمن حقوق الناس ويحفظها وهو الدور المنوط بالموثق.
الفقــرة الثــانيــة: الــركــن المــادي
1. السلوك الاجرامي:
ان السلوك الإجرامي يتخذ صورتين وهما الفعل والامتناع، ويتجسد السلوك الإجرامي في القيام بفعل (سلوك إيجابي)، إذ له كيان مادي ملموس أو محسوس يتمثل فيما يصدر عن الموثق من حركات لأعضاء جسمه ابتغاء منه لتحقيق آثار مادية معينة كاستعمال يده في أخذ مال الغير في جريمة السرقة[9]، أو الامتناع عن القيام بفعل(سلوك سلبي) يجرمه القانون، أي الامتناع عن القيام بحركة عضوية أو عضلية يوجب القانون القيام بها في وقت أو ظرف معين، وكان الموثق الممتنع قادر على القيام بالنشاط المطلوب منه.
2. النتيجة الإجرامية:
تكمن النتيجة الاجرامية في النتيجة التي يحتم القانون تحققها لكي يكتمل الركن المادي للجريمة.
وتعتبر النتيجة الاجرامية ذلك الأثر الخارجي المترتب على السلوك، والذي يتمثل في اعتداء الموثق على حق أو مصلحة يحميها القانون، كخروج المال من حيازة صاحبه دون علمه أو رضاه في جريمة السرقة ودخوله في حيازة الغير بما يعنيه هذا الأثر الطبيعي من عدوان على حق الملكية الفردية.
لكن إذا كانت النتيجة الاجرامية ضرورية ومطلوبة في اطار الجرائم المادية فهي غير لازمة بالنسبة للجرائم الشكلية التي يكتمل ركنها المادي بمجرد القيام بالعمل المجرم إيجابيا كان أم سلبيا، وهو الطابع الذي تتميز به مجموعة من الجرائم المرتكبة من طرف الموثق، كالتزوير...[10].
3. العلاقة السببية:
لابد لاكتمال البناء القانوني للجريمة أن يكون الفعل المرتكب من قبل الموثق، أي أن يكون هو سبب حدوث النتيجة سواء أكان فعلا إيجابيا أم امتناعا، و هو ما اتفق الفقه على تسميته بعلاقة أو رابطة سببية بين السلوك المجرم والنتيجة الضارة، ويجب أن تكون هذه النتيجة ناشئة عن ذلك الفعل ويرتبطان ارتباط السبب بالمسبب، و في حالة انقطاع علاقة السببية يسأل الفاعل حينها عن الشروع في الجرائم المقصودة ولا يسأل عن شيء في الجرائم غير المقصودة.
وتجدر الإشارة الى أن البحث عن العلاقة السببية لا يثير أية صعوبة إذا كان سلوك الموثق هو العامل الوحيد الذي أدى إلى النتيجة المعاقب عليها، فيكفي هنا لقيام السببية إسناد الفعل المجرم للموثق، وكما هو الحال بالنسبة للنتيجة الإجرامية، فإن العلاقة السببية هي الأخرى مطلوب تحققها بخصوص الجرائم المادية فقط، أما بالنسبة للجرائم الشكلية فلا يراعى بشأن ذلك، باعتبارها تتم بمجرد حدوث النشاط المجرم[11].
الفقــرة الثــالثــة: الركــن المــعنــوي
ويتجسد هذا الركن في اتجاه إرادة الموثق الى ارتكاب الجريمة مع العلم بأركانها بقصد تحقيق النتيجة الاجرامية، ويجب أن يكون الموثق عالما علما يقينا لا يقترن بأي جهالة بأن فعله سيؤدي إلى حدوث عمل إجرامي يعاقب عليه القانون، ويشترط أيضا ليكتمل الركن المعنوي أن يتمتع الموثق بإرادة حرة توجهه إلى ارتكاب الفعل المجرم أو تصده عن القيام بما أوجبه عليه القانون.
وعموما فتحقق الركن القانوني للجريمة الذي يتجلى في التنصيص على الفعل المجرم في القانون والركن المادي الذي يتمثل في السلوك الإيجابي أو السلبي ثم الركن المعنوي المتجسد في القصد الجنائي أو الخطأ، يؤدي الى حدوث ضرر للمتعاقد مما يستوجب مساءلة الموثق مساءلة جنائية من شأنها تحقيق السلم الاجتماعي عموما والأمن التعاقدي والتوثيقي خصوصا.
المطلــب الثــاني: شــروط قيــام المســؤوليــة الجنــائيــة للمــوثــق وموانــعه
وإذا ارتكب شخص طبيعي خطأ جنائيا، عمديا كان أو غير عمدي، وأسند له هذا الخطأ فإنه يتحمل مبدئيا المسؤولية الجنائية المترتبة عنه وبالتالي يمكن إدانته والحكم عليه قضائيا بالعقوبة المقررة للفعل قانونا، الا أنه قد لا يؤاخذ مرتكبها جنائيا ويكون ذلك في حالة ما إذا ارتكب الفعل في ظل سبب من أسباب الإباحة أو توافر مانع من موانع المسؤولية الجنائية (الفقرة الثانية).
الفقــرة الأولــى: شــروط قيــام المســؤوليــة الجنــائيــة للمــوثــق
أولا: الإدراك والتمييز
ترتبط المسؤولية الجنائية عامة من حيث أساسها بالإدراك والتمييز، ذلك أن الجريمة ينظر إليها نظرة فردية باعتبارها ناتجة عن إرادة الجاني وحده، و الإدراك والتمييز هما من عناصر الأهلية القانونية[15].
وهذه الأخيرة تفرض توافر وضع عقلي سليم لدى الفاعل يجعله يعي ما يفعله ويدرك نتائج فعله وما سيترتب عنه من عقاب، ويلزم التمييز بين هذا النوع من الأهلية لدى الموثق، وبين أهليته المهنية المتمثلة في الموانع القانونية التي إذا ما توافر أحدها جعلته غير أهل لتحرير الاتفاقات[16].
والإدراك هو الملكة العقلية التي تؤهل الإنسان وتجعله يعلم الأشياء وطبيعتها ويتوقع الآثار التي من الممكن إحداثها.
وقد تطرق المشرع المغربي لهذا الشرط من خلال الفصل 132 من القانون الجنائي، حيث جاء فيه: "كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عن الجرائم التي يرتكبها....".
هذا ويستلزم توافر الموثق على القدرة والتمييز وقد جاء المشرع في الفقرة الخامسة من المادة 3 من القانون 32.09 باشتراط أن يكون متمتعا بالقدرة اللازمة لممارسة المهنة مثبتة بشهادة طبية صادرة من مصالح الصحة التابعة للقطاع العام.
ثانيا: الإرادة وحرية الاختيار
تقتضي ممارسة الموثق لمهنة التوثيق العصري، التمتع بصفات معينة والمتمثلة في؛ الاستقامة والنزاهة، والشرف والأخلاق الحميدة، والعمل على حفظ كيان المهنة، وأن يتحمل تبعة كل خطأ قد يرتكبه، ذلك أن الموثق ملزم بتحقيق النتيجة عند قيامه بالاختصاصات الموكلة له قانونا، و هذا ما أقره المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) في قرار له بتاريخ 20-07-2005 عدد 2144 "إن الباعث على الإشهاد بواسطة الموثق هو ضمان تحقيق نتيجة من المعاملة المشهود بها"، لذلك ولكي يسأل عن أخطائه يشترط أن يتمتع بنوع من الإرادة وحرية الاختيار، إذ تعتبر الإرادة عنصر من عناصر الأهلية في المسؤولية الجنائية، يقصد بها القدرة النفسية التي يستطيع الشخص من خلالها أن يتحكم في نشاطه العضوي والذهني.
فالموثق لكي يسأل جنائيا يشترط أن يتوجه بإرادته هذه إلى ارتكاب الفعل المجرم حيث تكون له الحرية الكاملة بين أن يرتكبه أو أن يمتنع عنه، ومثال ذلك قيام هذا الأخيرة مباشرة أو بواسطة الغير بأي عمل يدخل في نطاق سمسرة الزبناء أو جلبهم.
الفقــرة الثــانيــة: مــوانــع قيــام المســؤوليــة الجنــائيــة للمــوثــق
ويترتب على موانع المسؤولية الجنائية للموثق آثار مهمة أهمها؛ أنه يتم إسقاط المسؤولية الجنائية عنه، إذ يعتبر غير مسؤولا جنائيا عن فعله ولا يعاقب عليه، لأن إرادته تكون منتفية وغير معتبرة قانونا، وتتمثل هذه الموانع في صغر السن والجنون والإكراه.
أولا: مانع الجنون
لم يعرف المشرع المغربي الجنون، ولكن اعتبره مانعا من موانع المسؤولية الجنائية ويمكن القول بأن مصطلح الجنون أو الخلل العقلي يستوعب كل الحالات التي من شأنها تعطيل الملكات الذهنية عن العمل بصورة طبيعية، بحيث تؤدي إلى نقصان الإدراك أو انعدامه.
وقد ذهب المشرع المغربي في الفصل 134 من القانون الجنائي إلى أنه: "لا يكون مسؤولا، ويجب الحكم بإعفائه من كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه في حالة يستحيل عليه معها الإدراك أو الإرادة نتيجة لخلل في قواه العقلية...".
غير أن فقدان العقل يجب أن يكون خارجا عن إرادة الفاعل، ففي حالة ارتكاب الموثق لجريمة معينة وهو في حالة سكر إرادي، فذلك لا يؤثر على مسؤوليته أبدا بحيث تكون مسؤوليته كاملة.
ثانيا: مانع الإكراه
قد يرتكب الموثق فعلا جرميا معاقبا عليه قانونا رغما عن إرادته أي أنه يكون مكرها على ذلك، حيث يضطر ماديا إلى ارتكاب الجريمة. أو يكون في حالة استحال عليه معها – استحالة مادية – اجتنابها، وذلك لسبب خارجي لم يستطع مقاومته، وهو ما يسمى بالإكراه المادي.
غير أن هناك إكراها آخر معنوي يتمثل في الضغط على الإرادة بتهديد الموثق بخطر لا سبيل إلى دفعه بوسيلة أخرى فيقدم على تزوير أو اختلاس أموال زبونه رغبة في دفع هذا الضغط والتهديد فتكون بذلك إرادته غير حرة ومشوبة بعيب.
كما أنه بالرجوع الى مقتضيات القانون الجنائي نجد أن المشرع نص على حالة انتفاء المسؤولية الجنائية في الحالة التي يكون فيها الفعل قد أوجبه القانون أو أمرت به السلطة الشرعية[17].
وإذا كان الخلل العقلي يمكن إثباته بشكل يسير بواسطة الخبرة الطبية فإن الإكراه أمر صعب الإثبات وإن كان من حق الموثق إثباته بكافة وسائل الإثبات القانوني التي من شأنها الكشف عن كون الفعل المرتكب تحت تأثير ضغوط خارجية لم يستطع مقاومتها.
وعليه فإن المسؤولية الجنائية للموثق تجد أساسها في الترسانة التشريعية الجنائية من خلال النصوص العامة والخاصة، من عقوبات وظروف تشديد وتخفيف، وكذا أركان قيام هذه المسؤولية وشروطها وذلك تطبيقا لمبدأ شرعية الجرائم، وكل هذا بهدف تحقيقا السلم الاجتماعي وضمان الحق العام، والحفاظ على الأمن التعاقدي بصفة عامة وتحصين مهنة التوثيق بصفة خاصة.
المــبحــث الثــانــي: نــطــاق تــطبيــق المســؤوليــة الجنــائيــة للمـوثــق
وفي حالة الخروج عن الحدود التي رسمها المشرع التي تضع الموثق تحت طائلة المسؤولية، خاصة إذا كانت الأفعال التي قام بها لها طابع جنائي فان هذا يجعل الآلة الجنائية تتحرك من أجل الحيلولة دون استفحال هذه الأفعال حتى لا يتم المساس بالنظام العام، مما يؤدي إلى الاضطراب الاجتماعي كما حدده المشرع المغربي في الفصل الأول من القانون الجنائي بأنه: "يحدد التشريع الجنائي أفعال الانسان التي يعدها جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، ويجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية".
و على هذا الأساس سأحاول تناول هذا المبحث من خلال الحديث عن صفة الموثق ونطاق تطبيق المسؤولية الجنائية في القانون الجنائي (المطلب الأول)، في حين سأخصص (المطلب الثاني) للحديث عن نطاق تطبيق المسؤولية الجنائية للموثق على ضوء قانون رقم 32.09
المطلــب الأول: صفــة المــوثــق ونــطــاق تطــبيــق المســؤوليــة الجنــائيــة فــي القــانــون الجنــائــي
وقد جاء المشرع المغربي بعدة نصوص عقابية تتعلق بأفعال الموثق غير المشروعة التي يقوم بها أثناء تأدية وظيفته، ومن الممكن أن تكسبه آنذاك صفة الموظف العمومي، وهو ما سنتناول الحديث عنه من خلال (الفقرة الأولى) على أن نتولى الحديث عن الجرائم وعقوبتها في إطار القانون الجنائي وذلك في (الفقرة الثانية).
الفقــرة الأولــى: صفــة المــوثــق أمــام القــانــون الجنــائــي
ومفهوم الموظف العمومي[18] في إطار الظهير المتعلق بالوظيفة العمومية مفهوم دقيق والذي يتنافى ولا يتناسب كليا مع مهنة التوثيق.
على خلاف هذا، فمفهوم الموظف العمومي السائد في القانون الجنائي أخذ به الفصل 224 من مجموعة القانون الجنائي حيث أنه: " يعد موظفا عموميا في تطبيق أحكام التشريع الجنائي كل شخص كيفما كانت صفته يعهد إليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام.
وتراعى صفة الموظف في وقت ارتكاب الجريمة، ومع ذلك فإن هذه الصفة تعتبر باقية له بعد انتهاء خدمته، إذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة أو مكنته من تنفيذها".
والملاحظ من هذا التعريف أنه لم يعترف صراحة بالتعريف السائد في القانون الإداري المغربي للموظف العمومي، إذ أن هذا الأخير يضيق من مدلول الموظف العمومي، وبهذا فمدلول الفصل 224 من القانون الجنائي أوسع، بحيث يمكن من خلاله القول بأن كل موظف عام بالمفهوم الإداري يعد كذلك في المفهوم الجنائي لكن العكس غير صحيح دوما، وهذا الأسلوب المتبنى في إعطاء مفهوم مغاير للموظف العمومي في القانون جنائي يجد أساسه في استقلاليته من غيره من فروع القوانين الأخرى.[19]
ومن خلال هذا التعريف الجد موسع ،يتضح بأن صفة موظف عمومي يمكن أن ننعت بها كل من يمارس عملا تابعا في المؤسسات الخاصة أو التي من الممكن تكييف نشاطها بأنه نشاط ذو نفع عام، على الرغم من خضوعها سواء من حيث النشاط الذي تقوم به أو من حيث علاقتها بمستخدميها لأحكام القانون الخاص لا القانون العام، بالإضافة إلى عامة الموظفين والمستخدمين في مختلف أجهزة الدولة وفي المؤسسات العمومية وفي الشركات التي تقدم رأسمالها أو جزء منه للدولة، وفي هذا المنحى سبق لمحكمة الاستئناف بالرباط بواسطة قرارها عدد 05 الصادر بتاريخ 12 شتنبر 2012 أن قضت بما يلي:
"استنباط الصفة العمومية للموظف وفق القانون الجنائي يرجع فيها إلى الجهة المشغلة المتضررة من الجريمة، إما بحسب النشاط الذي تقدمه للمرتفقين، أو بحسب القانون المنظم لها، أو بحسب مساهمة الدولة في رأسمالها، أو خضوعها لرقابة الدولة بواسطة أجهزتها الرقابية أو إذا رخصت لها الدولة للقيام بتنفيذ أعمال ذات مصلحة عامة".[20]
وفي نفس الاتجاه، سبق أن سار المجلس الأعلى- محكمة النقض حاليا- فيما يتعلق بأخذه بالمفهوم الجنائي الموسع للموظف العمومي، و يتضح ذلك من خلال عدة قرارات صادرة عنه، نذكر منها على سبيل المثال فقط:
* القرار عدد 5734 مؤرخ في 23 يوليوز 1992 الصادر في الملف الجنحي عدد 14168/90 ، الذي جاء في إحدى حيثياته ما يلي:
" البنك الشعبي يعتبر مؤسسة عمومية تقوم بخدمات ذات نفع عام حسب الفصل الثالث من المرسوم الملكي المؤرخ في 21 أبريل 1967 وبالتالي فالمستخدمون به يعتبرون موظفين عموميين بمفهوم الفصل 224 من القانون الجنائي".[21]
ويمكن الاستعانة بعدة عناصر للقول بأن مصلحة معينة ذات منفعة عامة من عدمها، ومن أهم هذه العناصر نذكر:
1) طبيعة الخدمات التي تؤديها المصلحة: نستشف ذلك من خلال الحكم أعلاه في اعتبار البنك الشعبي مؤسسة عمومية تقوم بخدمات ذات نفع عام.
2) خضوع المصلحة للقانون العام: فهذا العنصر نستشف منه أنه كلما خضعت المصلحة إلى القانون العام عدت ذات نفع عام، أما اذا خضعت للقانون الخاص عدت غير ذات نفع عام واستبعد بالتالي تطبيق الفصل 224 من القانون الجنائي.
3) التكليف بالخدمة من طرف السلطة العامة: تكليف مصلحة معينة أو مؤسسة بمقتضى قرار وزاري أو مرسوم.
وما يجب التأكيد عليه هو أن الموثق وإن كان يمارس عملا حرا في إطار مهنة حرة مما ينفي عنه صفة الموظف العمومي بالمفهوم الاداري، فإن ذلك لا يمكن أن ينفي عنه صفة الضابط العمومي، الذي يمكن تعريفه بأنه كل مهني يعمل وفقا لقرار من سلطات الدولة ويتمتع بمجموعة من الامتيازات للقيام بذلك العمل الذي يندرج ضمن نطاق المرفق العام[22]، فهناك إذن مجموعة من الاعتبارات التي لا تنفي عنه صفة الضابط العمومي و هي كالتالي:
v الموثق يحصل على اعتماده وختمه بعد موافقة وزارة العدل.[23]
v الموثق يتم تعيينه بقرار من رئيس الحكومة باقتراح من وزير العدل بعد ابداء اللجنة المكلفة بالتعيينات رأيها بالموضوع.[24]
v الموثق ملزم بأداء اليمين قبل الشروع في عمله.[25]
v الموثق ملزم بالمحافظة على السر المهني. [26]
فالقاضي الجنائي وهو يبحث عن مفهوم الموظف العمومي، عليه أن يرجع إلى مقتضيات الفصل 224 من القانون الجنائي وليس إلى نصوص القانون الإداري، وإلا عرض حكمه للنقض.
خلاصة القول أن القانون رقم 32.09 الذي أسقط بشكل صريح صفة الموظف العمومي من التعريف الذي أعطاه للموثق، قد أكد على صفة هذا الأخير أمام القانون الجنائي وذلك من خلال المادة 92 التي تنص على أن : " الموثق يتمتع أثناء مزاولة مهامه أو بسبب قيامه بها بالحماية التي تنص عليها مقتضيات الفصلين [27]263 و267[28] من القانون الجنائي.
الفقــرة الثــانيــة: نطــاق التجــريــم فــي القــانــون الجنــائــي
و تجدر الإشارة الى أن المشرع نص على عدة نصوص عقابية تتعلق بأفعال الموثق غير المشروعة التي يقوم بها أثناء تأدية مهنته أو بمناسبتها، و تبعا لذلك سنتطرق لهذه الأفعال:
أولا: جريمة التزوير
يعرف القانون الجنائي المغربي التزوير بأنه كل تغيير للحقيقة[29] يرتكب بسوء نية ويسبب ضررا للغير ويكون بإحدى الوسائل المنصوص عليها في القانون الجنائي.
و من خلال الفصول 352 و353 من القانون الجنائي كما عدل و تمم بالقانون 18.33، فان هذه الجريمة تتكون من ثلاثة أركان:
الركن الخاص وهو صفة الفاعل[30]، والركن المادي المتمثل في تغيير الحقيقة في ورقة بإحدى الطرق المنصوص عليها في القانون، و يجب أن يتم هذا التزوير في الأوراق الرسمية، ثم الركن المعنوي وهو القصد الجنائي الذي نص عليه صراحة الفصل 351 من القانون المغربي عندما اعتبر التزوير بمثابة تغيير الحقيقة بسوء نية.
وقد جاء في أحد قرارات محكمة النقض: " ...وحيث يتضح مما تقدم أن ما تضمنته الوثيقة المطعون فيها من اتفاقات تضر بمصالح المشتكي وإبرام هذه الاتفاقات أمام الموثقة وتوقيعها من طرف الأطراف الأخرى في مجلس واحد وتاريخ واحد كان مخالفا للحقيقة وسكوت المتهمة عن كيفية أخذ التوقيع المنسوب للمشتكي هو دليل كاف على سوء نيتها كما أن الخبرة الخطية التي أمرت المحكمة بإجرائها على التوقيعات الأربعة المذيل بها العقد موضوع الطعن بالزور...... وأن الأفعال المرتكبة من طرفها تشكل تزويرا ماديا باصطناع التوقيع المنسوب للمشتكي بصفته متنازلا وتزويرا معنويا بالتنصيص على وقائع وبيانات مخالفة[31].
ويعد الهدف من تجريم التزوير الذي يرتكبه الموثق ليس فقط الحيلولة دون تغيير الحقيقة كفكرة مجردة، وانما بهدف تحقيق الأمن القانوني للأطراف عن طريق حماية أدلة الإثبات المتمثلة في العقود ومختلف المحررات التي ينجزها الموثقون.
ثانيا: جريمة خيانة الأمانة
يعتبر الحفاظ على الأمانة واجبا دينيا وأخلاقيا قبل أن يكون التزاما قانونيا، ولقد بين الله سبحانه وتعالى حجم الأمانة من خلال قوله في محكم كتابه الكريم: >> إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.<< [32]
أما القوانين الوضعية فاعتبرت خيانة الأمانة جريمة يجب العقاب عليها، وفي نفس الاتجاه قام المشرع المغربي بالتطرق لجريمة خيانة الأمانة في الفصل 547 من القانون الجنائي[33]، كما تناول في الفصلين [34]549 و[35]550 من القانون الجنائي تشديد العقاب على فئات معينة في حالة اقترافها لهذه الجريمة، الا أنه لم ينص صراحة على فئة الموثقين في الفصل 549، ولكن يمكن أن يستشف بشكل ضمني في إطار الفصل 550 من القانون الجنائي على تشديد عقوبة جريمة خيانة الأمانة بالنسبة للموثقين، على اعتبار أنهم يدخلون ضمن زمرة من يحصلون على مبالغ أو قيم على سبيل الوديعة.
فالموثق ملزم بالحفاظ على جميع المستندات والأموال والوصولات والأوراق التي تسلم له تحت طائلة مسائلته جنائيا[36]، فالنقود التي يتلقاها الموثق مثلا في إطار إبرام التصرفات العقارية يقوم باختلاسها ويصبح مخالفا للإجراءات التي وضعها في صندوق الإيداع والتدبير، والتي لا تشكل فقط خطأ مهنيا، بل جريمة خيانة الأمانة تجب مؤاخذة الموثق من أجلها و هو ما ذهب إليه المجلس الأعلى –محكمة النقض حاليا- في إحدى قراراته[37].
ثالثا: جريمة النصب
من سمات هذه الجريمة أنها من الجرائم المالية ويتمثل ركنها المادي في استعمال وسائل احتيالية بغية تمويه إرادة المتعاقد ودفعه إلى التعاقد.[38]
فقد يعمد الموثق مثلا إلى استعمال وسائل احتيالية بغية الإضرار بالغير من الكذب وعدم الإفصاح عن الحقيقة للمتعاقد بشكل يؤدي به إلى التعاقد وإلحاق الضرر بالجانب المالي، من خلال وقائع غير صحيحة يعطيها إياه الموثق على اعتبار الثقة التي يجب أن يتحلى بها نظرا لحجم المعاملات المالية التي يقوم بتحرير عقود لها.
ومعاقبة الموثق على فعله الجرمي هذا كما نص على مقتضياته الفصل [39]540 من القانون الجنائي من شأنه أن يردع ويشكل ضمانا للمتعاقدين ويحقق أمنا توثيقيا.
رابعا : جريمة الاختلاس والغدر
إن هذه الجريمة –جريمة الاختلاس- تنطوي على عبث الموظف ومن في حكمه وإخلاله بالثقة والاعتداء على واجبات وظيفته، فالهدف من وضع الفصل 243 من القانون الجنائي يتمثل في حماية الثقة في الدولة ومرافقها، و التي تهتز حينما يستغل بعض العاملين باسمها سلطاتهم لإلزام الأفراد بما لا يلزمهم به القانون.[40]
وينص الفصل 241 على أنه: "يعاقب بالسجن من خمس إلى عشرين سنة وبغرامة من خمسة آلاف إلى مائة ألف درهم كل قاض أو موظف عمومي بدد أو اختلس أو احتجز بدون حق أو أخفى أموالا عامة أو خاصة أو سندات تقوم مقامها أو حججا أو عقودا أو منقولات موضوعة تحت يده بمقتضى وظيفته أو بسببها.
فإذا كانت الأشياء المبددة أو المختلسة أو المحتجزة أو المخفاة تقل قيمتها عن مائة ألف درهم، فإن الجاني يعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات، وبغرامة من ألفين إلى خمسين ألف درهم."
كما أنه من بين أهم الجرائم المرتكبة من طرف الموثقين و التي تأخذ النسبة الكبرى مقارنة مع الجرائم الأخرى هي جريمة الغدر، وهو ما يشهده الواقع العملي في فئة الموثقين.
و نص المشرع المغربي على هذه الجريمة في الفصل 243 على أنه ": يعد مرتكبا للغدر، ويعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس وبغرامة من خمسة آلاف إلى مائة ألف درهم، كل قاض أو موظف عمومي طلب أو تلقى أو فرض أوامر بتحصيل ما يعلم أنه غير مستحق أو أنه يتجاوز المستحق، سواء للإدارة العامة أو الأفراد الذين يحصل لحسابهم أو لنفسه خاصة.
تضاعف العقوبة إذا كان المبلغ يفوق مائة ألف درهم."
وبالنظر إلى أن من مهام الموثق هو القيام بتحصيل الرسوم المستحقة لفائدة الدولة، فإن هذه الجريمة تعتبر محققة عندما يقوم الموثق بالمطالبة برسوم غير تلك التي يفرضها القانون أو بأتعاب تفوق ما قررها القانون.
المطلب الثاني: نطاق تطبيق المسؤولية الجنائية للموثق على ضــوء قــانــون رقــم 32.09
الفقــرة الأولــى: جريمــة افشــاء الســر المــهنــي وســمســرة الزبنـــاء
وباعتبار الموثق يتلقى أسرار المتعاقدين فإفشائها يشكل جريمة يعاقب عليها القانون، وقد أشار المشرع إلى هذه الجريمة في المادة 24 من القانون 32.09[43]، حيث لم ينص على عقوبتها وترك الأمر للقانون الجنائي من خلال الفصل 446.[44]
غير أن هذا الالتزام بعدم إفشاء السر المهني لا يجب أخذه على إطلاقه ذلك أن القانون سواء في الفصل 24 من القانون 32.09 أو الفصل 446 من القانون الجنائي أعطى الملتزم بكتمان السر المهني إمكانية افشائه في الحالات التي يقررها القانون، وتبعا لذلك فالموثق لا يجوز له أن يستعمل السر المهني كذريعة ليتستر بها عن الجرائم المرتكبة ضد الدولة أو الأفراد، كأن يتذرع به مثلا لإخفاء حقائق تخص خزينة الدولة.[45]
كما أن من بين الاستثناءات الواردة على الإلزام بكتمان السر المهني، تلك التي يسمح فيها القانون للسلطة القضائية وبعض موظفي الدولة بالاطلاع على محتويات مكتب التوثيق. وبهذا الخصوص يعطي المشرع الحق للوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف أن يقوم بمراقبة مكتب التوثيق بدون إشعار مسبق، كما يمنحه القانون الحق في الاستعانة بممثلي الوزارة المكلفة بالمالية من أجل التفتيش و الاطلاع على أصول العقود و السجلات و السندات و القيم و المبالغ المالية و الحسابات البنكية ووثائق المحاسبة و كذا كافة الوثائق التي يمكن ان تفييدهم في مهمتهم.[46]
وحسنا فعل المشرع حينما نص ص راحة في كلا القانونين على تجريم إفشاء السر المهني وذلك حفاظا لأسرار الناس مما يشكل تحقيقا للأمن التعاقدي و إقرارا للضمانات التوثيقية.
ثانيا: جريمة سمسرة الزبناء
نص القانون المنظم لمهنة التوثيق في القسم الخامس المتعلق بالمقتضيات الزجرية على ان الموثق يمنع من القيام بعمليات السمسرة لجلب الزبناء سواء بنفسه أو بواسطة الغير، وهو تصرف لا يليق بهذه الجهة ويؤثر على حرية الأفراد في اختيار من يشهد على إبرام عقد لمعاملاتهم، فضلا على أنه يؤثر على العلاقات بين الموثقين، وقد تم إدراج هذه الجريمة ضمن الجنح المعاقب عليها بالحبس من سنتين إلى أربع سنوات وغرامة من 20.000 إلى 40.000 الف درهم، دون الإخلال بالمقتضيات المتعلقة بالعقوبات التأديبية التي يتعرض لها كل موثق مرتكب لهذه الجريمة.[47]
إلا أن ما يلاحظ بخصوص العقوبة المقررة لهذه الجريمة نجدها من جهة تتساوى مع تلك الواردة في الفصل 100 من القانون المنظم لمهنة المحاماة[48]، ومن جهة تانية نجدها أكثر من تلك المطبقة على نفس الجريمة في حالة ارتكابها من قبل ترجمان محلف لدى المحاكم.
الفقــرة الثــانيــة: جريمــة الاشهــار وتسليــم وثــائــق بعــد صــدور عــقوبــة العــزل او الإيــقاف
و قد جاء التنصيص على هذه الجريمة استجابة لتلافي بعض الأفعال المخلة بالممارسة الشريفة للمهنة تاركا أبواب المنافسة مفتوحة بين الممتهنين لمهنة التوثيق بغية تطوير أدوات عملهم على اعتبار أن السمعة كافية لوحدها في التعريف بالموثق ويتمثل هذا من خلال الخدمات التي يمثلها.
وإذا كان الأصل هو منع الموثق من القيام بالإشهار المهني فإن له الحق في أن يتوفر على موقع إلكتروني يشير فيه باقتضاب إلى نبذة عن حياته ومساره الدراسي واهتماماته و أبحاثه القانونية شريطة الحصول على إذن مسبق من رئيس المجلس الجهوي للموثقين بمضمون ذلك.
ثانيا: تسليم وثائق بعد صدور عقوبة العزل او الإيقاف
إن الموثق ملزم بتسليم كل أصول العقود والسجلات والوثائق المحفوظة لديه والقيم المودعة لديه إلى الموثق الذي يخلفه، كل ذلك داخل أجل 15 يوما من تاريخ تبليغه بقرار العزل أو الإيقاف، وعدم القيام بهذا الالتزام يؤدي إلى المساءلة الجنائية.[50]
فهذه الجريمة تعتبر مرتكبة بمجرد فعل حصول الامتناع عن تسليم الوثائق المشار إليها، شريطة أن يكون ذلك عن بينة واختيار، بمعنى أن الموثق مدرك لحقيقة عمله من الناحية الواقعية والعملية.
إن هذه الجريمة لا تستلزم إذن سوى القصد الجنائي العام أما القصد الجنائي الخاص المتمثل في نية الاضرار فهو غير ضروري.[51]
و تنص الفقرة الثانية من المادة 87 من القانون المنظم لمهنة التوثيق على أنه "... يعاقب الموثق الذي امتنع عن تسليم الوثائق طبقا لمقتضيات الفقرة السابقة بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وغرامة من 20.000 إلى 40.000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط ...".
وفي حالة متابعته جنائيا يتم إيقافه عن العمل إلى حين صدور حكم ببراءته أو إدانته[52]، الشيء الذي من شأنه تحقيق مصالح المتعاقدين وبعث جو من الثقة والطمأنينة في مهنة التوثيق وحصانتها، مما يحقق نوعا من الأمن التعاقدي والتوثيقي.
خـــــــــاتمـــــــة:
وفي الختام يمكننا القول بأن المشرع المغربي وضع مجموعة من الجرائم ونص على عقوبتها والتي يمكن لها أن تحافظ على كيان الوثيقة الرسمية وضمان مصداقيتها، كما تضمنت السياسة الجنائية المتبعة في مجال التعاملات المالية حماية مزدوجة، إذ نجد من جهة حماية الوسط الذي يشتغل فيه الموثق وكذا حماية الأطراف المتعاقدة من جهة، لما لهذه الحماية من أبعاد والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى تكريس مبدأ الأمن القانوني والتعاقدي باعتباره من الأساسيات والأهداف التي تتوخاه تشريعات الدول من القوانين التي سنتها.
كما أن صدور قانون ينظم مهنة التوثيق يعتبر أمرا محمودا في حد ذاته، خصوصا بعد أن أسقط صفة الموظف العمومي على الموثق، الذي أصبح يمارس عمله منذ صدور هذا القانون في إطار مهنة حرة واضحة الاختصاصات.
وبالرغم من أن هذا القانون فيه من المقتضيات ما لا ينزع صفة الموظف العمومي –كما أشرنا سلفا – أمام القانون الجنائي، إلا أن المشرع المغربي مطالب بالتدخل في إطار القانون الجنائي وذلك لإضافة صفة الموثق في بعض الفصول التي تخص بعض الجرائم التي لم تذكر فيها صفته، وذلك كله لرفع أي لبس قد يقع أثناء تكييف الجرائم التي ترتكب من قبل الموثقين.
كما أن القضاء ساهم بدوره في تطبيق السياسة الجنائية من خلال مساءلة كل الأشخاص المرتكبين لأفعال جرمية ومعاقبتهم على ذلك بما فيهم الموثقين بغية تحصين المهنة، وهذا مرده جملة من الاجتهادات القضائية تحقيقا للأمن القانوني والقضائي، وبذلك يكون المجتمع في مأمن في التعاملات التي تنشأ بين أفراده.
----------------------------------