المسؤولية القانونية عن أخطاء الذكاء الاصطناعي في التشريع المغربي

مقال بعنوان: المسؤولية القانونية عن أخطاء الذكاء الاصطناعي في التشريع المغربي

مقال بعنوان: المسؤولية القانونية عن أخطاء الذكاء الاصطناعي في التشريع المغربي PDF
عدنان السباعي باحث في الشؤون القانونية والعلوم الجنائية، المسؤولية القانونية عن أخطاء الذكاء الاصطناعي في التشريع المغربي
عدنان السباعي
باحث في الشؤون القانونية والعلوم الجنائية

مقدمة
شهد العالم تقدما علميا تكنولوجيا هائلا شمل جميع مناحي الحياة، ولعل الذكاء الاصطناعي من أهم اثار التكنولوجيا الحديثة، حيث أصبح اليوم يعيش مرحلة تغيير جذري على مستوى استغلال التكنولوجيا، بحيث نجد أن الفضاء الالكتروني قد تطور وانتقل من مرحلة تخزين البيانات ومعالجتها الى تحقيق الادراك والاقرار الذاتي للتكنولوجيا بما يحاكي الذكاء الانساني عبر استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

وهذا يمثل أهم مخرجات الثورة الصناعية الرابعة لتعدد استخداماته في المجالات العسكرية والصناعية والاقتصادية والتقنية والتطبيقات الطبية والتعلمية والخدمية، ويتوقع له أن يفتح الباب لابتكارات لا حدود لها وأن يؤدي الى مزيد من الثورات الصناعية بما يحدث تغييرا جذريا في حياة الانسان.

ويقصد بالذكاء الاصطناعي انه عبارة عن أنظمة كمبيوتر التي لها القدرة على القيام بذات المهام المطلوبة من الانسان البشري، ولكن بصورة أسرع من تلك التي يقوم بها الأخير، فالذكاء الاصطناعي يقوم على محاكاة الذكاء البشري في الآلات المبرمجة للتفكير مثل البشر، وتقليد أفعالهم، بحيث تكون لتلك الأنظمة القدرة على اتخاذ الاجراءات المناسبة من تلقاء نفسها، ودون تدخل العنصر البشري، وتشمل أهداف الذكاء الاصطناعي، التعلم، والاستدلال، والاستدراك.

ويعد الذكاء الاصطناعي جزءا لا يتجزأ من القانون، فالقانون هو اللبنة الأساس لحماية المجتمع، والقواعد القانونية هي الكفيلة بالسهر على تنظيم حياة الأفراد داخل المجتمع، ولذلك فالأنظمة الذكية لا يمكن تصورها بمعزل عن القواعد القانونية، فما دامت قد وجدت في دولة ما لها سيادة ولها قانون ينظمها، الا أنها تظل تحكم حتى الذكاء الاصطناعي الذي يراعى فيه بالأساس احترامه للنظام العام وعدم مخالفته له.

حيث أصبح الذكاء الاصطناعي واقعا مفروضا في حياة البشر لكونه يتدخل في جميع الانشطة الحياتية التي يقوم بها البشر، بل يتدخل أيضا في جميع فروع القانون كالقانون المدني والتجاري والاجتماعي وغيره، ولذلك فان الموجة التكنولوجية التي تعتبر في تزايد مستمر ستوضح أنه لا يمكن للبشر الاستغناء عن خدمات الذكاء الاصطناعي، وعليه فالذكاء الاصطناعي تسعى خلفه جل الدول، ولا يمكن أن نجد في المستقبل القريب دولة بدون أنظمة ذكية، حتى وان كان الواقع العملي قد كشف عن وجود بعض التطبيقات الذكية لكل البيوت كالهواتف الذكية مثلا، وبالتالي لا يمكن أن نتصور هذه الأنظمة الذكية بمعزل عن المجال القانوني.

ويثير الاعتماد على نظم الذكاء الاصطناعي تساؤلات عديدة، وتتعلق بكيفية استيعاب القانون لمعالجة مشكلات المسؤولية الناتجة عن استخدام هذه النظم الذي يمكن أن يلحق أضرارا بالأفراد. فكل شخص طبيعي أو معنوي، يعد مسؤولا مدنيا وجنائيا عن تبعات أفعاله، وإذا ما تم الاتفاق على الاعتراف بالذكاء الاصطناعي في جل الدول، فان التساؤل يطرح حول من يتحمل المسؤولية القانونية عن أفعاله.
إذا ماهي الاثار الاقتصادية والاجتماعية لتحديد المسؤولية القانونية للذكاء الاصطناعي؟ وهل يجب أن تكون هناك معايير أخلاقية أو توجيهات عالمية لتحديد المسؤولية القانونية للذكاء الاصطناعي؟ وماهي المعايير التي يمكن استخدامها لتحديد مستوى تقصير الذكاء الاصطناعي وامكانية تطبيق المساءلة القانونية؟

وللإجابة عن هذه التساؤلات فإننا سنتطرق الى مبحثين أساسيين، حيث سنتطرق في المبحث الأول عن الإطار المفاهيمي للذكاء الاصطناعي، في حين سنتحدث عن الذكاء الاصطناعي والمسؤولية القانونية المترتبة عليه وهذا في المبحث الثاني.

المبحث الأول: الإطار المفاهيمي للذكاء الاصطناعي

تلعب تكنولوجيا المعلومات والخوارزميات والاتصالات متمثلة بالذكاء الاصطناعي على تغيير دور المستهلك "المستخدم" من معزول تقنيا الى متواصل، ومن غير مدرك و لا فعال الى مستنير وفعال ونشط، ومن سلبي الى إيجابي، فهذه مجموعة العمليات الخاضعة للذكاء الاصطناعي تسمى بالتحول الرقمي، وهي تكنولوجيا جديدة تنقل المستهلك من واقع تقليدي الى واقع مطلع سريع للغاية[1]، حيث تخطى العالم به عصر "تقنية المعلومات" التي يعتمد الانسان فيها على الحاسوب في عملية جمع البيانات واسترجاعها، بينما تتم عملية الاستدلال و الاستنتاج واتخاذ القرارات من جهة الانسان نفسه لا من جهة الحاسوب، ليتجاوز العالم اليوم هذه النقطة وتصير الحواسيب هي التي تجيد الحلول وتتخذ القرارات بدلا من الانسان، بناء على العديد من العمليات الاستدلالية التي تغذى بها، حتى صارت الحواسيب قادرة على محاكاة السلوك البشري المتسم بالذكاء[2].

المطلب الأول: تعريف الذكاء الاصطناعي

من خلال هذا المطلب سنقف عند تعريف الذكاء الاصطناعي من خلال التطرق الى ماهيته (الفقرة الأولى) ثم الاشارة الى أهمية الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: ماهية الذكاء الاصطناعي

عند تتبع أدبيات الموضوع اتضح أنه يزخر بالعديد من التعريفات لمفهوم الذكاء الاصطناعي منها ما هو صادر عن منظمات ومنها ما هو اجتهاد فردي، وعليه سنعرض لبعض تلك التعريفات تباعا كما يلي:

يمكن تعريف الذكاء الاصطناعي على أنه: "مجموعة من التقنيات القادرة على التعلم، واستخدام المنطق، والتكيف، وأداء المهام بطرق مستوحاة من العقل البشري".

كما أن هناك من عرفه على أنه علم الحاسوب المرتبط بعلوم أخرى كعلم النفس والمعرفة، والمهتم بجعل الحواسيب تؤدي المهام بكفاءة عالية تحاكي كفاءات البشر والسعي لجعلها تفكر بذكاء.

وفي علم الحاسوب يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي الى ذكاء شبيه بذكاء الانسان بواسطة الحاسوب أو الروبوت أو أي جهاز اخر، وتعريف الذكاء الاصطناعي الشائع يشير الى قدرة الآلات على محاكاة القدرات العقلية البشرية والتعلم من أمثلة وتجارب وتعرف على الأشياء وتعلم اللغات والاستجابة لها واتخاذ قرارات وحل المشكلات والجمع بين هذه القدرات وغيرها لأداء وظائف قد يؤديها الانسان[3].

وقد عرف العلماء الذكاء الاصطناعي على أنه: "العلم المتعلق بصناعة الآلات وتصميم البرمجيات التي تقوم بأنشطة ومهام تتطلب ذكاء إذا ما قام بها الانسان[4]، أو " أنه العلم الذي يهدف الى صناعة الآلات وتطوير حواسيب وبرمجيات تكتسب صفة الذكاء، ويكون لها القدرة على القيام بمهام ما زالت الى عهد قريب حصرا على الانسان"[5]، كما أن هناك من عرفه على أنه: " فرع من فروع علوم الهندسة المتعلق بفهم ما يسمى بسلوك الذكاء والعمل على تجسيد هذا السلوك اصطناعيا.

وتتفق جميع التعاريف السابقة على أن الذكاء الاصطناعي عبارة عن تقنيات قادرة على التعلم وصنع القرار لذلك هي آلات ذكية.

الفقرة الثانية: أهمية الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني

يعد الذكاء الاصطناعي جزءا لا يتجزأ من القانون، فالقانون هو اللبنة الأساسية لحماية المجتمع، والقواعد القانونية هي الكفيلة بالسهر على تنظيم حياة الأفراد داخل المجتمع، ولذلك فالأنظمة الذكية لا يمكن تصورها بمعزل عن القواعد القانونية، فما دامت وجدت في دولة لها سيادة ولها قانون ينظمها، الا أن هذه القواعد تظل تحكم حتى الذكاء الاصطناعي الذي يراعى فيه بالأساس احترامه للنظام العام وعدم مخالفته له، فأصبح الذكاء الاصطناعي واقعا مفروضا في حياة البشر لكونه يتدخل في حياة جميع الأنشطة الحياتية التي يقوم بها البشر.

كما تتعدد الفوائد المتعلقة باستخدام التكنولوجيا القانونية، حيث نجد أنه ثمة العديد من الفوائد المحتملة بحيث يمكن للمستخدمين التحقق من أي وثيقة فردية بشكل جزئي أو كلي تلقائي، وبخلاف ذلك فقد أصبحت العقود الذكية شائعة تقريبا، وتعرف بأنها اجراء الاتفاقات و المعاملات التجارية الكترونيا، وذلك بهدف تنفيذ شروط العقد رقميا، وأنها تتيح أداء المعاملات بمصداقية عالية وموثوقة، دون الحاجة الى أطراف ثالثة، حيث توجد تطبيقات أحدث في السوق يمكنها التعامل مع القضايا القانونية بشكل مستقل، وفي الوت الحال توجد برامج تقنية قانونية تتيح التعلم الالي، خاصة في مجال العقود، كما يتم استخدام هذه التكنولوجيا في قضايا تسوية المنازعات عبر الأنترنيت.

وفيما يتعلق بالاستخدام العام للتكنولوجيا القانونية، يضطلع القانون بدور رائد في الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية حيث قامت الشرطة بتطبيق تقنية Big data التي تهدف الى مساعدتهم على التنبؤ بالجرائم المستقبلية، كما يتم استخدام التكنولوجيا القانونية في النظام القضائي، فيعد اجراء تحصيل الديون الالي أول مثال بسيط في ألمانيا.

أما بخصوص التشريع المغربي فقد بدأ يواكب التطورات الحديثة في مؤسساته، حيث نلاحظ أنه يتجه للاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي من أجل تعزيز أدوار هذه المؤسسات، حتى وان كان اعتماده هذا مازال منعدما فيما يتعلق بجهاز الشرطة التنبئية، لما له من دور كبير في الاسهام في الكشف عن الجريمة، غير أنه في حالة ما إذا اعتمده مستقبلا ينبغي عليه تعديل مقتضيات القانون الجنائي التي لا تعاقب على المحاولة في بعض الجنح[6].

وتعمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال القرارات الادارية على تحقيق التواصل الذكي بين المواطنين والحكومات وبين الموظفين واداراتهم، كما تعمل على توفير زيادة التفاعل من خلال استخدام وسائل ذكية لإصدار قرارات ادارية من شأنها تعزيز جودة الخدمات التي تقدمها جهة إدارية[7].

المطلب الثاني: الأساس التشريعي للذكاء الاصطناعي

من خلال هذا المطلب سنتطرق الى الأساس التشريعي للذكاء الاصطناعي الشيء الذي يستدعي منا الوقوف عند التطور التاريخي للذكاء الاصطناعي (الفقرة الأولى) ثم التطور التشريعي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: التطور التاريخي للذكاء الاصطناعي

مع تطور العلوم و تقدم التقنية، اتجه الانسان نحو الالة للاستفادة منها في مساعدته على انجاز المهام على نحو أكثر اتقانا، وصارت التحسينات تجري على الآلات وصارت تكتسب صفة الذكاء على نحو يحاول أن يحاكي القدرات الذهنية الفريدة عند الانسان وهو ما اصطلح عليه العلماء المختصون بالذكاء الاصطناعي Artificiel intelligence، وتتضمن أنظمة الذكاء الاصطناعي بعض الوظائف القابلة للبرمجة مثل التخطيط والتعلم والتفكير وحل المشكلات واتخاذ القرارات ببعض المجالات، ويتم تشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي بواسطة استخدام تقنيات مثل التعلم الالي والتعلم العميق.

وقد تم القيام بأول عمل جوهري في مجال الذكاء الاصطناعي على يد عالم المنطق ورائد الكمبيوتر البريطاني "الان تورينج" في منتصف القرن العشرين حين أجرى ما سماه "باختبار تورينج" وهو طريقة للتحقيق في الذكاء الاصطناعي لتحديد ما إذا كان الكمبيوتر قادرا على التفكير كانسان أم لا، حيث يعد تورينج اضافة الى كل من مارفن مينسكي، ولايسن نيويل، وهوبرت سايمون، وجون مكارثي الاباء المؤسسين للذكاء الاصطناعي[8].

وبخصوص صياغة مصطلح الذكاء الاصطناعي على هذا النحو فقد كانت سنة 1955 حين تقدمت مجموعة من العلماء بطلب اقامة مؤتمر الى ادارة كلية دارتموث في الولايات المتحدة الأمريكية، وشكل ذلك المؤتمر الانطلاقة الحقيقية لأبحاث الذكاء الاصطناعي المتخصصة، وقاد العلماء الذين شاركوا فيه الأبحاث في هذا المجال خلال السنوات التالية.

أما النسبة للاتحاد الأوربي فقد عمد الى وضع العديد من التوصيات بشأن قواعد القانون المدني المطبقة على أنظمة الذكاء الاصطناعي وكان ذلك سنة 2017، كما أصدرت سنة 2019 مجموعة من الارشادات حول الكيفية التي يجب على الحكومات والشركات اتباعها عند تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

الفقرة الثانية: التطور التشريعي للذكاء الاصطناعي

يعتبر التنظيم القانوني ضروري في العالم الرقمي، لأن القانون يضطلع بوظيفة مجتمعية هامة والتي تتمثل في المقام الأول في خدمة الصالح العام وحماية الأقليات، وحيث تفتقر أجهزة الكمبيوتر الى فهم الأعراف الاجتماعية، الشيء الذي ينبغي على المشرعين سد هذه الفجوات.

وقد بدأ الاهتمام بالذكاء الاصطناعي خلال العقدين الماضيين، وذلك بسبب الانجازات الكبيرة التي حققها في العديد من المجالات مثل الطب، واللوجستية، والصناعة، والاقتصاد، ومعالجة اللغات الطبيعية، وتداول الأسهم في الأسواق، والأنظمة الأمنية في تحليل الصور و الأصوات، حيث واكب المشرع الفرنسي و الأوربي التطور الهائل في مجال التكنولوجيا، وبذلك عمدت الكثير من التشريعات الى اصدار قوانين خاصة بالروبوتات والذكاء الاصطناعي، حيث أصدر المشرع الأوروبي سنة 2017 قانونا خاصا بالروبوتات ألغى فيه وصف "الشيء" بالنسبة للروبوت، واستخدم مصطلح "النائب الالكتروني أو الإنساني"، ثم أصدر الاتحاد الأوروبي سنة 2019 مجموعة من الارشادات حول بيان كيفية تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فيما يخص الولايات المتحدة الأمريكية فقد أصدرت "قانون مستقبل الذكاء الاصطناعي و افاقه في العالم" وذلك سنة 2017، وهو أول قانون يتمحور حول نظم الذكاء الاصطناعي، أما بالنسبة لموقف المشرع البريطاني فقد تم تعيين لجنة مختارة حول الذكاء الاصطناعي سنة 2017 للنظر في الاثار الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية في مجال الذكاء الاصطناعي، في حين نجد أن البرلمان الأوروبي سنة 2018 اقترح على الدول الأعضاء في الاتحاد وضع تشريع بشأن الجوانب القانونية لتطوير استخدام الروبوت والذكاء الاصطناعي، ثم أصدر الاتحاد الأوروبي نصوصا تكميلية للائحة الأوروبية العامة لحماية البيانات الشخصية، التي تضع اطارا للتدفق الحر للبيانات غير الشخصية في الاتحاد الأوروبي رقم 1807 لسنة 2018.

غير أن ما يعاب على التشريع المغربي هو أنه ولحدود اللحظة ما زال لم يستطع مسايرة التقدم التكنولوجي، مما يجعله متأخرا بشكل كبير في تنزيل هذه الأنظمة الذكية، مقارنة بالتجارب الدولية السابق ذكرها، وهو ما يؤدي والحالة هذه الى غياب نصوص قانونية تؤطر هذه الأنظمة.

المبحث الثاني: الذكاء الاصطناعي والمسؤولية القانونية المترتبة عليه

اقتحمت أنظمة الذكاء الاصطناعي جميع مناحي حياة الانسان، وأصبحت هي التي تعمل وتفكر وتجد الحلول نيابة عن الانسان، وعليه فمهما بلغت درجة دقة وتطور الذكاء الاصطناعي لان لا يرتكب خطأ، وبالتالي ارتكابه للجرائم، أو قد يقوم بأعمال قد يترتب عليها ضرر للغير، مما يستتبع العمل على تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، مع أهمية الحفاظ على حقوق الانسان، بحيث تعطى الأولوية لزيادة رفاهية الانسان، وايجاد معايير أخلاقية لعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي، وفي هذه الحالة يصعب تحديد المسؤول عن هذه الاضرار، ويقصد بالمسؤولية من الناحية اللغوية مجموعة من القواعد التي تضبط سلوك الشخص، وهي تنقسم بذلك الى مسؤولية مدنية تحكمها مقتضيات القانون المدني، ومسؤولية جنائية تخضع لمقتضيات القانون الجنائي، فالمسؤولية القانونية للذكاء الاصطناعي، اما أن تكون مسؤولية مدنية تترتب عن الأضرار التي يسببها الذكاء الاصطناعي للغير، واما أن تكون مسؤولية جنائية تثار في حالة قيام الذكاء الاصطناعي بارتكاب جرائم ضد الغير.

المطلب الأول: المسؤولية المدنية عن أخطاء الذكاء الاصطناعي

يقصد بالمسؤولية "la responsabilité" هو تحمل الشخص لنتائج وعواقب التقصير الصادر عنه أو عمن يتولى رقابته والاشراف عليه، أما بخصوص المعنى الدقيق لمصطلح المسؤولية في الميدان المدني فهي تعني المؤاخذة عن الأخطاء التي تضر بالغير وذلك بإلزام المخطئ بأداء التعويض للطرف المضرور وفقا للطريقة والحجم الذي يحددهما القانون[9].

وتعتبر المسؤولية القانونية للذكاء الاصطناعي تحديا قانونيا مطروحا، لكونه وصل لمرحلة يتخذ فيها قرارات مستقلة كليا عن ارادة البشر دون تدخل من هذا الأخير، وبالتالي فان منحه الشخصية القانونية سيمنحه جملة من الحقوق والالتزامات ما سيجعله كالإنسان تماما، حيث أن هذه النقطة تعتبر موضوع نقاش كبير في أغلب الدول، وبذلك تجدر بنا الاشارة هنا الى المسؤولية المدنية للذكاء الاصطناعي القائمة على الاعتبار الشخصي حتى يتسنى لنا معرفة مدى امكانية مساءلة الذكاء الاصطناعي عن أفعاله شأنه في ذلك شان الشخص الطبيعي، وعليه لا بد من التطرق لمدى قيام المسؤولية العقدية للذكاء الاصطناعي (الفقرة الأولى) ثم تحقق المسؤولية التقصيرية للذكاء الاصطناعي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: المسؤولية العقدية للذكاء الاصطناعي

تعتبر المسؤولية العقدية جزءا لا يتجزأ من المسؤولية المدنية عموما، فكلاهما يهدف الى تعويض الطرف المضرور عن الأضرار والخسائر التي لحقت به سواء كان ذلك ناتجا عن الاخلال ببنود العقد أو التأخير في تنفيذه، فالمسؤولية العقدية لا تعدو أن تكون أثرا من اثار الاخلال بالالتزامات العقدية أو بتعبير اخر مجرد جزاء من جزاءات عدم تنفيذ الالتزام.

ويتحدد مفهوم المسؤولية العقدية في الحالة التي يخل فيها المتعاقد بالتزاماته اتجاه الطرف الاخر، ويؤخذ مصطلح الاخلال بمعناه الواسع بحيث يشمل حالات عدم تنفيذ الالتزام كلا أو بعضا، وكذا الحالات التي يتأخر فيها التنفيذ عن وقته المحدد للعقد[10].

وإذا ما تم استخدام الذكاء الاصطناعي على أساس رابطة عقدية، فان المسؤولية العقدية ستقوم هنا على أساس اخلال أحد الأطراف بالتزام عقدي ناشئ عن العقد، مما يستلزم معه توفر مجموعة من الشروط، حتى تنطبق المسؤولية العقدية للذكاء الاصطناعي، كأن يكون هذا العقد صحيحا، وأن يتم الاخلال بتنفيذه من جانب أحد المتعاقدين بالتزام عقدي، بالإضافة الى توفر أركان المسؤولية العقدية التي تتمثل في الخطأ والضرر وعلاقة سببية.

فالخطأ العقدي يتخذ أكثر من مظهر قانوني، يختلف باختلاف نوعية الاخلال الذي ارتكبه المدين، فهو قد يتمثل في امتناع أحد المتعاقدين عن الالتزامات التي تعهد بها، وقد يكون ذلك في شكل تأخر في التنفيذ، الأمر الذي يتسبب في الحاق الضرر بالطرف الدائن.[11]

أما الضرر العقدي فهو الصورة الملموسة التي تتمثل فيها نتائج الخطأ العقدي، وهذا يعني أن الخطأ اذا لم يترتب عنه ضرر فانه لا مجال لإعمال قواعد المسؤولية العقدية، فالضرر هو كل ما يلحق المتعاقد من خسارات مالية وتفويت لفرص الربح، بشرط أن يتصل ذلك اتصالا مباشرا بالفعل الموجب لهذه المسؤولية، وبالتالي لا يكفي لقيام المسؤولية العقدية ان يكون هناك ضرر وخطأ، وانما يلزم الى جانب ذلك أن يكون هذا الخطأ هو الذي تسبب في حدوث هذا الضرر، اي ان يكون الخطأ سببا مباشرا لحدوث الضرر، بحيث أن علاقة السببية بين الخطأ والضرر مسألة لا غنى عنها، وأن لا تكون هناك أسباب خارجية، مما يعني أن عبئ اثبات هذه العلاقة يقع على الطرف المدعي أي الذي يطالب بالتعويض عن الأضرار التي لحقت عن عدم تنفيذ العقد.

وعليه فاذا كانت المسؤولية العقدية تقوم عند الاخلال التزام عقدي يختلف باختلاف ما اشتمل عليه العقد من التزامات، فان أحكامها الان أمام تحديات قانونية كبيرة لاسيما في ظل ما وصل اليه الذكاء الاصطناعي من قدرات إدراكية هائلة.

ويتضح أن المسؤولية العقدية للذكاء الاصطناعي من الصعب اعمالها، لأنه في الغالب حتى وان اعتبرنا أن الذكاء الاصطناعي فائق الذكاء ومتخذا لقراراته بصورة مستقلة، ستبقى مسألة من يقف وراءه للإشراف على أعماله، مما يمكننا من أن نؤيد الاحتمال الأول بكون أنه في حالة حدوث الضرر يمكن للمتضرر أن يعود على من عينه لإبرام هذا العقد، فتطبيق المسؤولية العقدية على الذكاء الاصطناعي لم يكن كافيا لمواجهة الاضرار التي يحدثها، فضلا على أنها توجه للشخص الطبيعي في حالة اخلاله بالعقد لا للذكاء الاصطناعي، بمعنى أن هذا الأخير حتى وان كان طرفا في العقد، لا يمكن أن نسائله مسؤولية عقدية، حتى وان افترضنا قيام الأطراف بإضافة بنود في العقد لوصف قدرة الذكاء الاصطناعي ومخاطره، فان العقد لا يولد الا " التزام ببذل عناية لا بتحقيق نتيجة".

الفقرة الثانية: المسؤولية التقصيرية للذكاء الاصطناعي

الأصل في المسؤولية التقصيرية أنها مسؤولية تقوم على خطأ واجب الاثبات يكمن في أن كل شخص ألحق بخطئه ضررا للغير لزمه جبره، فالقاعدة العامة تقضي بعدم الاضرار بالغير، وكل اخلال بهذا الواجب القانوني العام يعتبر خطأ يلزم مرتكبه تعويض ما لحق الطرف المضرور جراء ذلك الخطأ من ضرر في نفسه أو في ماله.

حيث نص المشرع المغربي في الفصل 77 من ق.ل.ع، الذي جاء فيه ما يلي: " كل فعل ارتكبه الانسان عن بينة واختيار، ومن غير أن يسمح به القانون، فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير ألزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر، إذا أثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر".

فالخطأ التقصيري هو الانحراف عن السلوك المألوف للشخص العادي الذي يصدر منه عن تميز وادراك، وهو ما نجد المشرع المغربي قد عرفه بأنه: " ترك ما كان يجب فعله أو فعل ما كان يجب الامساك عنه، وذلك من غير قصد لإحداث الضرر" أما المشرع الفرنسي فلم يقم بتعريف الخطأ، والى جانب الخطأ هناك الضرر الذي يعد شرطا جوهريا لقيام المسؤولية المدنية والمسؤولية التقصيرية على وجه الخصوص، وقد عرفه المشرع المغربي في اطار الفصل 98 من ق.ل.ع على انه "الضرر في الجرائم وأشباه الجرائم، هو الخسارة التي لحقت المدعي فعلا والمصروفات الضرورية التي اضطر أو سيضطر الى انفاقها لإصلاح نتائج الفعل الذي ارتكب اضرارا به، وكذلك ما حرم منه من نفع في دائرة الحدود العادية لنتائج هذا الفعل…"، ويلزم في الضرر ماديا كان أو معنويا أن يكون محققا وأن يتعلق هذا الضرر بحق أو مصلحة مالية مشروعة للمدعي.

اضافة الى ركني الخطأ والضرر، يستلزم توفر العلاقة السببية بينهما، وأن يكون ناتجا عن الخطأ المنسوب للشخص المسؤول مباشرة.

غير أن التساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو هل يمكن التسليم بفكرة امكانية قيام المسؤولية التقصيرية عن فعل الذكاء الاصطناعي؟

ان طبيعة الذكاء الاصطناعي من الصعب أن تتوافق معها المسؤولية عن الخطأ، أي أنه ليس للمسؤولية القائمة على التمييز و الوعي أي فائدة في التطبيق على فعل الذكاء الاصطناعي، بالرغم من استقلاله وقدراته المعرفية[12]، وبالتالي فان تقنيات الذكاء الاصطناعي تبقى بمعزل عن اسقاط قواعد المسؤولية التقصيرية عن الأفعال الشخصية والتي لها محدودية في التطبيق، ذلك أنه حتى ولو افترضنا حدوث ضرر مادي لحق الشخص في ذمته المالية، فانه بالرجوع الى أركان المسؤولية التقصيرية وجدنا على أنه يشترط للحصول على التعويض أن يكون الخطأ وأن يكون الفاعل عالما ومدركا، وله نية في الحاق الضرر بالمتضرر.

وعليه فسواء تعلق الأمر بالمسؤولية العقدية أو التقصيرية، تبقى فكرة المسؤولية المدنية القائمة على الاعتبار الشخصي تستند لفكرة مسؤولية الشخص عن أفعاله، فيما يمكن وصفه بالمسؤولية المباشرة عن الفعل الشخصي التي تقوم على أساس الخطأ الشخصي المباشر أو غير المباشر.

المطلب الثاني: المسؤولية الجنائية عن جرائم الذكاء الاصطناعي

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد حلم يراود البعض أو ضرب من ضروب الخيال العلمي، بل أضحى حقيقة واقعية تحظى بتطبيقات عدة تحاكي الذكاء البشري، ولعل من أبرز ما يميز برامج الذكاء الاصطناعي عن غيرها من البرامج الأخرى هي قدرتها الفائقة على التعلم، الا أن نظام الذكاء الاصطناعي هو صورة من صور التطور التكنولوجي وأعلاها منزلة في العصر الراهن، وعلى الرغم من مزاياه الا أن اعتماد الادارة عليه في كافة الأنشطة التي تقوم بها وما يترتب عليه من مسؤولية وما يترتب عليه من اثار قانونية قد يكون محفوفا بالمخاطر بسبب الاخطاء التي قد تنجم عن الذكاء الاصطناعي، ومن تم يؤدي الى الاضرار بالمتعاملين، مما يستلزم ضرورة البحث عن التكييف القانوني الذي يتناسب مع معطيات العصر والنظر الى المسؤولية الجنائية الناتجة عن أخطاء الذكاء الاصطناعي من منظور جديد يتناسب مع التطور التكنولوجي المذهل في كافة المجالات[13]، ويقصد بالمسؤولية الجنائية ذلك الأثر القانوني المترتب على الجريمة، التي تقوم على أساس تحمل الفاعل للجزاء الذي تفرضه القواعد القانونية الجنائية بسبب خرقه للأحكام التي تقررها هذه القواعد.

الفقرة الأولى: قيام المسؤولية الجنائية عن جرائم الذكاء الاصطناعي

تشكل الجريمة خطرا اجتماعيا، لأنها تشكل مساسا بحقوق أو مصالح جديرة بالحماية الجنائية، وهي تهدد الكيان البشري في أمنه واستقراره بل وحياته، وانطلاقا من الخطورة التي تتسم بها هذه الظاهرة، نجد علماء القانون وعلماء النفس يولون هذه الظاهرة اهتماما كبيرا من حيث الدراسة، فقيام أي جريمة كيفما كان نوعها، يتطلب فيها أن تتوفر على الأركان الأساسية الموجبة لذلك، بعد أن يتم احداث النشاط الاجرامي، اضافة الى أن الجريمة يتطلب حدوثها ضرورة ارتكابها من قبل فاعل سواء كان أصليا أو مساهما أو مشاركا.

فالمسؤولية الجنائية عبارة عن ذلك الأثر المترتب عن الجريمة كواقعة قانونية، وتقوم على أساس تحمل الفاعل للجزاء الذي تفرضه القواعد القانونية الجنائية بسبب خرقه للأحكام التي تقررها هذه القواعد، بعبارة أخرى هي تحمل نتائج أعمالنا، وتتحدد هذه المسؤولية بوضوح ودقة في نطاق القواعد الجنائية، في الالتزام بتحمل ما ترتب عن النشاط المجرم، وعن تنفيذ الحكم بالإدانة في واجب الالتزام بتنفيذ العقوبة[14].

وتعد المسؤولية الجنائية بالنسبة لجرائم الذكاء الاصطناعي معقدة بعض الشيء، بحيث أن هناك أربعة أطراف ترتبط بهم المسؤولية الجنائية في هذا النوع من الجرائم، وهم المصنع لتقنية الذكاء الاصطناعي، والمالك، والذكاء الاصطناعي نفسه، أو طرف خارجي غير هؤلاء الأطراف الثلاثة، فارتكاب الذكاء الاصطناعي لجريمة من تلقاء نفسه بدون خطأ برمجي ونتيجة لحدوث تطور ذاتي في نظام الذكاء الاصطناعي الذي يعمل به أصبح أمرا ممكنا جدا في الوقت الحالي، فارتكاب الجريمة من قبل الذكاء الاصطناعي بنفسه دون خطأ برمجي من المصنع أو تدخل أي طرف، وذلك عن طريق تقنيات حديثة تمكن الذكاء الاصطناعي من التفكير واصدار قرارات ذاتية، يكون هو وحده المسؤول عن اصدارها ففي هذه الحالة من المفترض أن تكون المسؤولية الجنائية واقعة على الذكاء الاصطناعي وحده، حيث نجد أنفسنا هنا أمام اشكال هام يتمحور حول امكانية تويع عقوبة ذات طابع زجري على كيانات الذكاء الاصطناعي[15].

ويمكن اعتبار الحديث عن ارتكاب الذكاء الاصطناعي لجريمة من تلقاء نفسه، دون وجود خطأ برمجي في الوقت الحالي ضربا من الخيال، لكن ذلك قد يحدث في المستقبل القريب وبالتالي يتعين وضع هذه الاحتمالية و التفكير بحلول لها، ويمكن القول أنه في الوقت الحالي ورغم التطور الذي وصلت اليه كيانات الذكاء الاصطناعي الا أنها لم تصل بعد الى الدرجة التي تمكنها من اتخاذ القرارات، ومن جعلها المسؤولة الوحيدة عن الخطأ غير العمدي الناجم عن أعمالها وذلك على اعتبار أنه لا يمكن تصور ارتكاب جرم من قبلها، دون اشتراك أطراف أخرى كالمصنع أو المالك أو المستخدم أو طرف خارجي اخر، الا انه يبقى غير بعيد أن يصل كيان الذكاء الاصطناعي الى هذه الاستقلالية بارتكاب الجريمة بذاته دون اشتراك أحد، فهي مسالة محتملة مرتبطة بما يفرزه التطور و الخيال العلمي.

الفقرة الثانية: شروط قيام المسؤولية الجنائية عن جرائم الذكاء الاصطناعي

تعتبر المسؤولية الجنائية الأساس القانوني الذي ينبني عليه توجيه أصابع الاتهام بالجريمة الى شخص معين، ولذلك لا بد من وجود شروط تقوم عليها، والغاية من ادراج هذه النقطة هو معرفة مدى امكانية تطبيق الشروط المنصوص عليها في القانون الجنائي على تقنيات الذكاء الاصطناعي، ذلك أن المشرع المغربي نص في الفصل 132 من ق.ج، على أنه: " كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عن الجرام التي يرتكبها.."، ويلاحظ من خلال هذا الفصل أن المشرع المغربي قد حاول أن يحدد الشروط الأساسية التي ينبغي أن تتوفر من أجل أن نسائل الشخص عن الجرائم التي يرتكبها، ولذلك فالمسؤول الجنائي حسب هذا الفصل يجب أن يكون عاقلا متمتعا بالإرادة قادرا على التمييز، غير أنه في ظل غياب نصوص قانونية تحدد الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الذكاء الاصطناعي من أجل أن نسائله، هل تعتبر هذه الأخيرة ملائمة لمساءلة الذكاء الاصطناعي؟

كما أن المشرع المغربي اشترط لثبوت المسؤولية الجنائية ضرورة توفر شرط العقل، بمعنى أنه لا مسؤولية جنائية في حالة ثبوت اصابة الشخص للفعل الجرمي بخلل عقلي، وتعتبر الأمراض العقلية من المسائل الخفية الدقيقة التي يرجع الفضل فيها لذوي الخبرة من أهل الاختصاص، ويمكن للمحكمة أن تقرر بناء على الملاحظة المباشرة، كما أن المرض العقلي لا سيما عندما يكون في صيغة الجنون قد يكون متصلا أو متقطعا لذلك يصب اكتشافه بدون فحص طبي من قبل المتخصصين في المجال، ولا يمكن القول فقط بانعدام مسؤولية الادعاء بوجود نقص أو خلل في الملكات الذهنية.

وبالتالي فما دام المشرع المغربي قد نص صراحة على كون المسؤولية الجنائية تثار فقط في الحالة التي يكون فيها الشخص مدركا ما يفعله، حيث تنتفي في حقه المسؤولية الجنائية لغياب شرطها الأساسي المتمثل في الادراك والتمييز، حيث يثار التساؤل حول كيفية اثبات عنصر الادراك والتمييز لدى تقنيات الذكاء الاصطناعي؟

لو افترضنا أن الذكاء الاصطناعي متمتع بالاستقلالية وقائم على نظام التعلم الالي، فانه في نهاية المطاف يظل مختلفا عن الانسان، فهذا الأخير يملك ملكة الفكر والوعي والادراك والتمييز، في حين أن الذكاء الاصطناعي لا يملك عقلا مفكرا، ولذلك فحسب الفصل 132 من ق.ج أعلاه فالاتهام لا يوجه الا للشخص الطبيعي لأنه الوحيد المؤهل لتحمل المسؤولية الجنائية، فالأهلية القانونية تمنح لكل انسان من لحظة مولده لحين وفاته، فهو الكائن المؤهل لاكتساب الأهلية القانونية ببلوغه سن الرشد الجنائي المحدد في 18 سنة شمسية كاملة، ويعد هذا الأكثر منطقية واتفاقا مع مفهوم الجريمة التي ترتكب من قبل الانسان، باعتباره كائنا متمتعا بالإرادة المطلوبة، كما لا مسؤولية عليه اذا ارتكب فعلا يشكل جريمة طالما انعدمت ارادته[16].

خاتمة
وفي الختام يمكن القول ان لتحقيق التوازن بين الذكاء الاصطناعي والمسؤولية القانونية في مجال الذكاء الاصطناعي يبقى تحديا معقدا على الرغم من التقدم الهائل في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، يظل التحدي الأكبر هو تحديد الجهة المسؤولة في حالة حدوث أخطاء أو جرائم حيث انه من الواضح أن الذكاء الاصطناعي يفتقر الى القدرة على التحمل الشخصي لأفعاله.
لذا قد تكون هناك حاجة لإعادة النظر في قواعد المسؤولية القانونية وتكييفه ليشمل تحديات الذكاء الاصطناعي، ويمكن أن تتضمن الاقتراحات المستقبلية تطوير قوانين وسياسات جديدة تلتقط تطورات التكنولوجيا وتوجهها نحو تحقيق توازن بين التقدم والمسؤولية، كما يجب على الأطراف المعنية بما في ذلك القانونيين والمهندسين والمبتكرين أن يتعاونوا لوضع ارشادات وضوابط تسهم في توجيه تطورات الذكاء الاصطناعي نحو الأهداف الأخلاقية والقانونية.
وعليه فانه يتطلب التعامل مع المسؤولية القانونية للذكاء الاصطناعي رؤية استباقية وتعاون مستمر بين القانونيين والمختصين التقنيين لضمان استفادة مجتمعنا من التقنية المتقدمة بطريقة تلتزم بالقيم الأخلاقية وتحمي حقوق الأفراد.
--------------------------------------------------
هوامش:
[1] مصعب ثائر عبد الستار، المسؤولية التقصيرية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، المجلد العاشر، العدد الثاني 2021، ص 391.
[2] أحمد سعد علي البرعي، تطبيقات الذكاء الاصطناعي والروبوت، العدد الثامن والأربعون، ص 23
[3] عدد خاص بالملتقى الدولي المحكم حول الاستثمار المالي والصناعي في الذكاء الاصطناعي "التكنولوجيا المالية والثورة الصناعية الرابعة"، مركز جيل البحث العلمي سلسلة كتاب أعمال المؤتمرات العدد 34- أبريل -2022 ص 87
[4] عبد الله موسى، أحمد حبيب، الذكاء الاصطناعي ثورة في تقنيات العصر المجموعة العربية للتدريب والنشر- القاهرة، الطبعة الأولى 2019 ص 20
[5] صابر الهدام، القانون في مواجهة الذكاء الاصطناعي دراسة مقارنة، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس، السنة الجامعية 2021/2022 ص 14
[6] صابر الهدام، مرجع سابق، ص 40
[7] محمد فتحي محمد ابراهيم، التنظيم التشريعي لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، العدد 71 شتنبر 2022، بدون صفحة
[8] كريم علي، الجوانب القانونية للذكاء الاصطناعي، مقال منشور في مجلة جيل الأبحاث القانونية العدد 54، ص 53
[9] عبد القادر العرعاري، مصادر الالتزامات، الكتاب الثاني، المسؤولية المدنية، الطبعة الثالثة، 2011، ص 9
[10] عبد القادر العرعاري، م.س، ص 36
[11] عبد القادر العرعاري، م.س، ص 40
[12] محمد أبو مندور موسى عيسى، مدى كفاية القواعد العامة للمسؤولية المدنية في التعويض عن أضرار الذكاء الاصطناعي- دراسة تحليلية تأصيلية مقارنة- مجلة حقوق دمياط للدراسات القانونية والاقتصادية، عدد 5، يناير 2022، جامعة دمياط مصر، ص 277
[13] عبد الله أحمد مطر الفلاسي، المسؤولية الجنائية الناتجة عن أخطاء الذكاء الاصطناعي، المجلة القانونية "مجلة متخصصة في الدراسات والبحوث القانونية"
[14] عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي "القسم العام"، بدون مطبعة، الطبعة 9، 2019، ص 325
[15] بن عودة حسكر مراد، اشكالية تطبيق أحكام المسؤولية الجنائية على جرائم الذكاء الاصطناعي، مجلة الحقوق والعلوم الانسانية، المجلد 15، العدد 01/2022، ص 100
[16] سعيد الوردي، شرح القانون الجنائي العام المغربي – دراسة فقهية وقضائية، مطبعة الأمنية، الرباط، بدون طبعة، ص 133


تعليقات